لم يكتفِ القديس بالبحث عن مكان هادئ إذ حفر له مغارة في الصخرة، ولكنه أحب سكنى القلاية، رغم صعوبة ذلك عليه وهو الذي اعتاد الحياة الطلقة في الجبال والوهاد.. وأتعجب جدًا من نصيحته لأحد الرهبان الذي ذهب إليه يطلب كلمة منفعة، إذ قال له: [امضِ واجلس في قلايتك والقلاية سوف تعلمك كل شيء..] ولقد درّب الآباء أنفسهم كثيرًا حتى تصبح القلاية بالنسبة للراهب مثل الأم الحنون والمعمل الروحي، وتصبح مع الوقت رغم ضيقها أوسع من الفضاء الخارجي فيحس بالراحة والانطلاق داخلها وليس خارجها.. كما تدرب الآباء على عدم الانسياق للفكر الذي يُملي عليهم الخروج أو الدخول، فإذا ألحّ عليه فكره بالخروج آثر البقاء والعكس صحيح.. ولولا ذلك لأصبح كريشة أو قصبة تحركها الريح.
وتعليقًا على ذلك سأل بعض الرهبان أباهم الروحي قائلين: [كيف ينصح القديس موسى تلميذه بأن يجلس في القلاية وهي تعلمه كل شيء، في حين يوصي الشيوخ أن يتردد الراهب على معلمه ليكشف له أفكاره ويسترشد بالروح القدس من خلاله؟]، فأجاب الأب بأن [هذا لا يتعارض مع تعليم الشيوخ، مثلما كان القديس مكاريوس ينصح الراهب المبتدئ أن يتبع تدبيره الروحي العادي في الأيام الأولى لسكناه في القلاية لفترة حتى يتأقلم مع القلاية ويختار له نظامًا يناسبه].
هو نفسه يقول عن الحياة في سكون [الذي يهرب ويحيا في الوحدة يشبه عنقود عنب ناضج بواسطة الشمس (يقصد التجارب التي تمحّص) وأمّا الذي يمكث بين الناس وأحاديثهم فهو يشبه عنبًا غير ناضج].
وكان يساعد الرهبان الجدد اختبار ذلك، فعندما كان أحد الأخوة في الإسقيط ذاهبًا إلى الحصاد مضى إلى الأنبا موسى الأسود وقال له:
يا أبى: قل لي ماذا أعمل، هل أذهب إلى الحصاد؟ أجاب الأخ: نعم: سأنصت إليك، وإذا أجبتك، هل تقتنع بقولي؟ أجاب الأخ: نعم: سأنصت إليك.
قال الشيخ: إذا كان الأمر كذلك فقم وحرر نفسك من الذهاب إلى الحصاد وهلم أخبر بما تفعله حينئذ رحل الأخ وحصل على حل من إخوته وأصاحبه كما أخبره الشيخ. ثم جاء إليه. فقال الشيخ: "أمضى إلى قلايتك. واحفظ نعمة الروح التي فيك وكل الخبر الجاف والملح مرة واحدة في اليوم، وبعد أن تفعل هذا سوف أخبرك عن أمر آخر تؤديه بعد ذلك" فمضى لأخ وعمل حسب ما أوصاه الشيخ وعاد إليه مرة أخرى، ولما رأى الشيخ انه كان يقول بعمل اليدين أطلعة عل الطريقة المثلى للحياة في القلاية، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. وذهب لأخ إلى قلايته وسقط على وجهه إلى الأرض وظل يبكى أمام الرب ثلاثة أيام كاملة بلياليها. وحدث بعد هذه الأمور عندما كانت أفكاره تحدثه قائله:"لقد صرت رجلًا مغبوطًا عظيمًا كان يقاطعها واضعًا أمام عينيه عيوبه ونقائصه السابقة ويقول: "وهذه كلها خطاياك. ومره أخرى عندما اعتادت أفكاره أن تقول: "لقد أديت أعمالًا كثيرة بتراخ"، كان يقول أيضًا: "ومع ذلك أؤدي أعمالًا قليلة جدًا لله وهو الذي يسبغ على رحمته". وعندما كان يتغلب على الأرواح بطرق كثيرة هكذا كانت تظهر له في هيئة مخلوقات جسمانية قائلة له: "لقد قهرتنا" فكان يقول: "لماذا؟" فيجيبونه "إذا وضعناك، فنحن نرتفع بواسطتك إلى مكانة عظمى، وإذا رفعناك فنحنن نتضع إليك".
ومع ذلك فإنه كان مضيافًا من النوع المثالي.. فبينما كان القديس أرسانيوس محبًا للصمت والخلوة كان موسى محبًا للإخوة والغرباء مع حرصه في الكلام وعدم إدانته، كان كل من القديسين أرسانيوس وموسى عمودين هامين في الإسقيط وكانا يمثلان كِلا المنهجين الموجودين الآن في أكثر أديرة الرهبان، أي أن هناك من يتصل بالزائرين ويقوم على راحتهم، باعتبار ذلك عمله.. مثلما هناك من لا يفارق قلايته إلا قليلًا.