القلب الشفوق هو القلب المملوء بالحنان والحب. البعيد كل البعد عن القسوة. إنه يفيض رقة واشفاقاً علي كل أحد. حتي علي الذين لا يستحقون.
وحنو الإنسان علي غيره قد يشمل الكائنات جميعاً
فيحنو علي العصفور المسكين. وعلي القط الصغير. وعلي النبتة الذابلة. بل قد يحنو علي الوحش المفترس! مثل ذلك القديس الذي رأي أسداً يئن من شوكة في قدمه. فانحني وأراحه منها. وحفظ الأسد له هذا الجميل.
* * *
وقد يكون الحنو في نواح مادية أو جسدية
أو قد يكون في نواح نفسية أو روحية
وخلاصة الأمر أن القلب المملوء حناناً. يفيض بهذا الحنان في كل المجالات. وعلي كل أحد: علي الفقير المحتاج. وعلي المريض المتألم. كما يشفق علي اليائس والمنهار نفسياً. وعلي الساقط في خطيئة أو في عادة رديئة. وهو في حاجة إلي من يأخذ بيده ويقيمه. والحنان ليس مجرد عاطفة في القلب. وإنما هي تتحول إلي عمل جاء من أجل اراحة الغير.. أما الحنان النظري فهو حنان قاصر وحنان ناقص. يحتاج إلي اثبات وجوده عملياً. ويقول الانجيل في ذلك "لا نحب بالكلام ولا باللسان بل بالعمل والحق".
ان القلب الحنون يمكنه أن يكسب الناس. أما القلب القاسي فيخسرهم..
الناس يحتاجون إلي من يعطف عليهم. وإلي من يأخذ بأيديهم. الي من يشجع الضعيف. ويقيم الساقط. ويفتح نافذة من رجاء أمام اليائس يفهم ظروف الناس واحتياجاتهم. وتكون له روح الخدمة نحو من يحتاج إلي خدمته. فيخدم الكل. ويساعد الكل. ويعين الكل. ولا يحتقر ضعفات أحد. بل يشجع ضعاف النفوس. ويسند الضعفاء. ويتأني علي الجميع.. فتيلة مدخنة لا يطفأ. فربما تهب ريح علي هذه الفتيلة المدخنة فتشتعل. وتضيء مرة أخري.
* * *
القلب الشغوق يجول يصنع خيراً..
يشعر بمتاعب الناس. ويحاول أن يريحهم. حتي دون أن يطلبوا منه ذلك.. وبخاصة لو كان في موقع المسئولية. لا ينتظر حتي يصرخ الناس أو يصيحوا أو يكثروا شكاواهم. بل باحساس مرهف يعرف مواضع الألم وأسباب الضيق. ويهتم بكل أحد.
إنه كالماء الذي ينساب في الحقل. يروي كل شجرة. ولا يسمح لضميره أن يري واحدة منها تذبل من العطش أو من قلة السماد.
ان الذي ائتمنته الجماهير علي مصائرها. ينبغي في عمق حنوه أن يحل مشاكل هؤلاء. ولا يدع أحداً مرازخاً تحت حمل. بل يرفعه عنه.
ما أجمل قول السيد المسيح: "تعالوا إليّ ياجميع المتعبين والثقيلي الأحمال. وأنا أريحكم".
* * *
ان الشفقة ليست فقط واجب المسئولين في مجال مسئوليتهم..
بل هي واجب انساني علي كل قلب يشعر بآلام الغير..
من هنا كان عمل المتطوعين في ميادين الخير.. مثال ذلك الجمعيات الخيرية الكثيرة في تعدد اغراضها. ومنها الملاجيء للأيتام. ولجان البر التي تهتم بالفقراء والمحتاجين. وجمعيات الصليب الأحمر. وجمعيات الهلال الأحمر.. ومنها أيضا الجمعيات الخيرية الطبية. مثل جمعيات مكافحة الدرن. وجمعيات العناية بمرضي الجزام. والجمعيات التي تعتني بالصم والبكم والمكفوفين. وسائر المعوقين جسديا وعقليا.
ويدخل في هذا النطاق أيضا المتبرعون بالدم لمن يحتاجونه في عمليات جراحية. وكذلك كل الهيئات الخيرية التي تدخل تحت عنوان N.G.O Non governamental organizations.
* * *
ومن أصحاب القلوب الشفوقة المشفقون علي الخطاة
ما أسهل معاقبة الخاطيء علي خطيئته. ولكن العمل النبيل الشفوق هو انقاذه من خطيئته.. حتي بالنسبة إلي المسجونين. وقد قيل عن السجن أنه "تأديب وتهذيب واصلاح" ونرجو أن يكون كذلك فعلاً. ولا يكون بيئة يؤثر فيها الشرير علي الذي دخل السجن لسقطة في تصرفه لا في طبيعته.. من هنا فإن الدولة تسمح لبعض رجال الدين مسلمين ومسيحيين أن يعملوا في السجن علي وعظ المسجونين وهداياتهم. كما يقوم بعض الخيرين بخدمة أولئك المسجونين. فيقدمون لهم ما يحتاجون إليه من ملابس. ومن أطعمة. ومن كتب. مع سائر حاجياتهم الأخري. ويهمنا من هذه الشفقة والرعاية وأعمال الحنو. أن يخرج السجين غير ساخط علي المجتمع. وقد استفاد من فترة سجنه أدباً وتغيير حياة.
* * *
علي أن القلوب المشفقة علي المسجونين تقوم بعملين آخرين:
* عمل منهما للمسجونين علي ذمة التحقيق. قبل أن يصدر القضاء حكمه. وهؤلاء قد يحتاجون إلي محامين يقومون بالدفاع عنهم. وتقتضي الشفقة تزويدهم بمستلزمات هذا الدفاع.
* الأمر الثاني هو العناية بأسرة السجين. سواء في فترة التحقيق. أو بعد الحكم عليه. وبخاصة لو كان هذا السجين هو العائل الوحيد لهذه الأسرة ويحتاج الأمر إلي رعاية الأسرة من كافة النواحي. والاستمرار في هذه الرعاية إلي أن يطلق سراح السجين. وربما بعد أن يطلق سراحه أيضاً. حتي يدبر له مصدر رزق.
* * *
من عمل القلوب المشفقة علي الخطاة أيضا: الشفقة علي ضحايا الإدمان.
سواء في أول انحرافهم أو بعد السقوط في الهوة.. سهل جداً أن نحكم علي المدمنين. أو أن نتجنبهم. ولكن الشفقة نحوهم تقتضي تخليصهم مما قد تورطوا فيه..والعلاج هنا يمر في مرحلتين: المرحلة الأولي عبارة عن علاج طبي. لتخليصهم من تلك السموم التي دخلت في أجسامهم. والمرحلة الثانية هي مرحلة التأهيل. وتحتاج إلي حجزهم في مكان بعيد عن كل الإغراءات التي قد تعيدهم إلي التعاطي مرة أخري. ورعايتهم حتي يتم شفاؤهم تماماً جسداً ونفساً. تقتضي الشفقة عليهم أمرين آخرين: أحدهما يتعلق بعائلاتهم والصلة بها. والثاني بتوظيفهم بعد الشفاء. ورد اعتبارهم.
* * *
ننتقل إلي الحديث عن الشفقة علي الخطاة بصفة عامة
الناس علي أنواع في تعاملهم مع الخطاة: ما بين قسوة الحكم. أو مجرد الكلام والتشهير. أو العطف علي هؤلاء الخطاة وانقاذهم مما هم فيه. ولننظر أيضا إلي موقف الله من الخطاة. ما أكثر ما يستر الله علي الخطاة.. كم من أناس قد غطسوا في الشر حتي غطاهم. ولا يزال الله يستر. لم يكشفهم ولم يفضحهم. ولم يعلن بأية الطرق علي خطاياهم. لأنهم ربما لو انكشفوا. لضاعوا وانسد أمامهم الطريق إلي التوبة بعد فقد ثقة الناس به. الله الذي لا حدود لقداسته يستر. بينما الناس يشهرون بغيرهم. علي الرغم من أن لهم أيضاً عيوباً وسقطات. ولكنها القسوة.. القلب القاسي باستمرار يحطم ويهدم. وقسوته لا تشفق ولا ترحم. هو كالنار التي تأكل كل شيء. حتي نفسها.
* * *
أما القلب الشفوق. فإنه يستر خطايا الناس.. لا يتحدث عنها ولا يشهِّير بها. ولا يقسو في الحكم عليها. بل قد يجد لأصحابها عذرا!
أو يخفف من المسئولية الواقعة عليهم.. وان قابلهم لا يفقد توقيره لهم. معطياً إياهم فرصة لإصلاح حالتهم.. إن القلب الخلاق يعيش في مشاعر الناس. يتصور نفسه في مكانهم. لذلك لا يسمح لنفسه بأن يجرح أحداً. بل يبرهن علي نقاوة قلبه بعطفه علي الكل.
انه يعرف أن الطبيعة البشرية حافلة بالضعفات. وأن أقوي الناس ربما تكون في حياته ثغرات. وقد يسقط ان اشتدت الحروب الروحية عليه. وإن تخلت عنه النعمة الحافظة!
لذلك فهو ينظر إلي الناس في حنو. في قيامهم وفي سقوطهم أيضاً.
* * *
كان القديس يوحنا القصير. ان سمع عن أحد أنه سقط في خطية يبكي فإن سئل عن سبب بكائه. يقول: "ان سقوط هذا الأخ يدل علي ان الشيطان نشيط ويعمل. وان كان قد أسقط أخي اليوم. فربما يسقطني أنا غداً..". وهكذا في اتضاع لم يضع هذا القديس نفسه في مرتبة أسمي من غيره. وبكل حنو نظر إلي سقطة ذلك الأخ. ونسبها إلي الشيطان لا إلي فساد طبع ذلك الذي سقط. ولهذا لم يحكم عليه في قسوة. قال أحد الآباء: "ان لم تستطع أن تمنع ذلك الانسان الذي يتكلم علي أخيه بالسوء. فعلي الأقل لا تتكلم أنت..".
* * *
ان القلب الحنون لا يعامل الناس بالعدل مجرداً. انما يخلط بعدله كثيراً من الرحمة.
هذا لو كان عدله أيضا عدلاً صادقاً ودقيقاً كذلك لا يجعل عدله عدلاً جافاً حرفياً. يطبق فيه النصوص. بل يجب عليه كذلك أن يقدر الظروف المحيطة. سواء كانت عوامل نفسية أو وراثية. أو تربوية أو عوامل اجتماعية. أو أسباباً ضاغطة. أما الذي يصب اللعنات علي كل مخطيء. دون أن يقدر ظروفه. أو يفحص حاله. فإنه صاحب قلب لا يرحم. والقلب الحنون لا يحكم علي أحد بسرعة.. بل يعطي كل أحد فرصة للدفاع عن نفسه. ولتوضيح موقفه.
* * *
والقلب الشفوق لا يكثر اللوم والتوبيخ..
وان وبخ. يكون ذلك بعطف وليس بقسوة. وقد يقدم لتوبيخه بكلمة تقدير أو كلمة حب. حتي يكون التوبيخ مقبولاً. وان احتاج الأمر منه إلي حزم وشدة. فقد يفعل ذلك مضطراً. ولكنه في مناسبة أخري يعالج بالحنو نفسية ذلك المخطيء. لكي يزيل منها ما علق بها نتيجة للشدة السابقة.
* * *
والقلب الحنون لا يخجل أحداً. ولا يجرح أحداً
وقد يشير إلي الخطأ من بعيد. بألفاظ هادئة وربما بطريق غير مباشر. وربما في السرّ وليس في أسماع الناس.
أما الذي يرجم الناس بالحجارة. فعليه أن يتروي لئلا يكون بيته من زجاج!! وليعلم أن كل الفضائل بدون المحبة ليست شيئاً. والمحبة تتأني وتترفق. والحكمة هي أن يكسب الناس بالحنو. ولا يخسر الناس بالقسوة.
* * *
والقلب الحنون يعزي الناس في ضيقاتهم
ويشعرهم بأن وراء كل ضيقة فرجاً يريده الله منها. وأن هذا الفرج قد لا نراه بالعين المادية. ولكننا نراه بالإيمان. بالثقة في عمل الله المحب وحسن رعايته للبشر.
فالله في محبته للبشر لا يسمح أن تحل تجربة بانسان تكون فوق طاقة احتماله. والتجارب الشديدة التي رواها التاريخ. لم يسمح بها الله إلا لأشخاص أقوياء يحتملونها. كما حدث لأيوب الصديق.
الله أيضاً يجعل مع التجربة المنفذ. ويجعلها تؤول إلي النفع إذا ما أحسن الإنسان استخدامها.
* * *
لذلك فصاحب القلب الحنون ينصح بأنه قد تحيط المتاعب من الخارج. ولكن ليس من الحكمة أن تدخل تلك المتاعب إلي داخل النفس.
مثال ذلك السفينة الكبيرة التي تمخر عباب المحيط: قد تضطرب الأمواج وتعلو من حولها. ولكن السفينة تظل سائرة نحو هدفها في رصانة وهدوء. طالما أن المياه لاتزال خارجها.
مسكينة تلك السفينة: إن وُجد ثقب فيها. استطاعت به المياه أن تتسرب إلي داخلها.