كان صعود الرب في وجود التلاميذ على جبل الزيتون، هو الظهور الحادي عشر والأخير له بالجسد، وإذ ارتفع عنهم جذب أنظارهم إليه، وقد ارتفع ليجذب أنظارنا إليه، وليظل النظر والاهتمام مركَّزًا على السماء حيث المسيح جالس عن يمين العظمة. وليؤكد ما قاله لنيقوديموس: «وليس أحَدٌ صَعِدَ إلَى السماءِ إلّا الّذي نَزَلَ مِنَ السماءِ، ابنُ الإنسانِ الّذي هو في السماءِ» (يوحنا 3: 13).
والصعود فعلٌ يتبع القيامة، فالذي يقوم مع المسيح يطلب ما فوق حيث المسيح جالس: «فإنْ كنتُم قد قُمتُمْ مع المَسيحِ فاطلُبوا ما فوقُ، حَيثُ المَسيحُ جالِسٌ عن يَمينِ اللهِ» (كولوسي 3: 1). فنحن وإن كُنّا ما نزال في الجسد إلّا أن عيوننا واهتمامنا يتّجهان إلى فوق، حيث رئيس خلاصنا قائم في مجده. ولقد دخل المسيح كسابق لأجلنا إلى الأقداس، ليعدّ لنا مكانًا، لقد شقّ لنا طريقا عبر الحجاب كرّسه بنفسه، ونحن نتبعه في ثقة. كذلك عمل المسيح كمرساة لأجلنا، والمرساة أو الهلب هو (الخُطّاف) الذي يثبّت السفينة في اليابسة، وحالما يُدَّق في الأرض تصبح السفينة في أمان من العواصف ومن الغرق واللصوص (ولذلك سُمِّي بالهلب أي الرجاء)، هكذا المسيح ضمن لنا هذا الرجاء رغم أن سفينتنا ما تزال في بحر هذا العالم. فالتلاميذ رغم الحزن المتوقّع لمفارقة الرب لهم، إلّا أن صعوده أبهج قلوبهم «فسجَدوا لهُ ورَجَعوا إلَى أورُشَليمَ بفَرَحٍ عظيمٍ» (لوقا 24: 52).
لم نعد ننتمي إلى هذا المكان، بل أمسينا نلملم أوراقنا ونسدّد ديوننا، ونصالح ونحتمل ونصبر على الضيقات، ولقد تعمّق لدينا الشعور بالغربة من بعد صعود المسيح، وهو -وحتى لا يتركنا يتامى- فقد وعد بإرسال عطية الروح القدس، الذي سيعزّينا ويذكّرنا بكل ما قاله لنا. ولكننا مع ذلك نئنّ مشتاقين أن نخلع هذه الخيمة ونوجد نحن معه في مجده: «وإنْ مَضَيتُ وأعدَدتُ لكُمْ مَكانًا آتي أيضًا وآخُذُكُمْ إلَيَّ، حتَّى حَيثُ أكونُ أنا تكونونَ أنتُمْ أيضًا» (يوحنا 14: 3)، بل لقد طلب الرب يسوع نفسه من الآب ذلك لأجلنا: «أيُّها الآبُ أُريدُ أنَّ هؤُلاءِ الّذينَ أعطَيتَني يكونونَ مَعي حَيثُ أكونُ أنا، ليَنظُروا مَجدي الّذي أعطَيتَني، لأنَّكَ أحبَبتَني قَبلَ إنشاءِ العالَمِ» (يوحنا 17: 24).
إن المسيح لم يفتدنا فقط من خطية آدم ليعيدنا من جديد إلى الفردوس، بل وهبنا -بعد أن ننتظر قليلاً في فردوس أفضل- أن نحيا معه إلى الأبد في ملكوته. وهكذا صار صعود المسيح وجلوسه عن يمين الآب هو الميراث الذي تركه لنا نتعزّى به وسط ضيقات وأحزان هذا العالم، وكلما اشتدّ بنا الضيق والألم نتمسّك أكثر بالوعد الذي نلناه: «وأنا إنِ ارتَفَعتُ عن الأرضِ أجذِبُ إلَيَّ الجميعَ» (يوحنا 12: 32).