الانقطاع في الصوم:
يرتبط الانقطاع عن الطعام والامتناع عن الدسم أحدهما بالآخر، فكيف ينقطع إنسان عن الطعام لعدّة ساعات ليأكل بعدها ما يشاء؟! وقد لا يُحسَب هذا إلاّ تأخيرًا لموعد الطعام، وهل يُحسَب صائمًا مَنْ ينام حتى ساعة متاخرة من النهار ليتناول طعامه عقب استيقاظه؟ وهل يُحسَب صائمًا حتى الثالثة أو الرابعة من يستيقظ من نومه عند الظهر؟ إن عنصر الجوع في الصوم هامٌّ كشرط لصوم سليم حتى تكتمل أركان الذبيحة فيه، ومن هنا نقول إن هناك فرقًا بين الصوم الحقيقي وفقدان الشهية. يُحسَب الصوم الانقطاعي خلال الفترة التي كان الإنسان مستيقظًا فيها، ضابطًا لنفسه، لا سيما إذا تحرّكت فيه شهوة الطعام والشراب. وكلما ضبط نفسه كلما كان الصوم فعّالاً وقانونيًا. وقد تسلّمنا من الآباء كيف كانوا حريصين جدًا على الالتزام بفترة الانقطاع.
المرونة في ذلك:
ليست هناك قوانين للمرونة إذ أنها تختلف من موقف لآخر ومن شخص لآخر، سواء من جهة مرونة المدبِّر مع الشخص، أو مرونة الشخص مع نفسه، أو مع ضيوفة. ولكن هناك قاعدة معروفة وهي أن المرونة مقبولة إن كانت من أجل عمل المحبة. وكانت المرونة تأتي في إطار الأكل مبكِّرًا، والآن تأتي المرونة أيضًا من جهة الإفطار الكامل سواءً الحبالى أو المرضعات أو الشيوخ أو العجائز أو المرضى بأمراض معينة. ومع ذلك فهناك أشخاص أُمناء وملتزمون بالتدبير مها كانت حالتهم الصحية، أذكر قداسة البابا شنوده ونيافة الأنبا أرسانيوس ورهبان وعلمانيين كثيرين.
كمية الطعام:
يحتاج الجسم إلى كمّية ما من الطعام تختلف من جسم لآخر ومن شخص لآخر حسب المجهود الذي يبذله، والإنسان يحتاج إلى جهاد لكي يكون جسمة معقولاً، ويحتاج أيضًا إلى ترويض بالتالي، مثلما حدث مع الأنبا موسى وغيره. وفي الأوقات التي ليس فيها صوم قد يتجاوز الإنسان احتياجه قليلاً إلى فوق، ولكنه ملتزم بالاحتياج الفعلي للجسم، لا أقلّ ولا أكثر، لأن الجسد وزنة يجب المحافظة عليه، وإذا اُتخِم الجسد أظلم الذهن، وإذا أُجهِد ضاع التركيز، وفي الحالتين هناك مخالفة. ويجب علينا أن نتبع التعقُّل في الصوم، فهناك بعض من الشباب يسلك بتطرُّف متشبِّهًا ببعض القديسين الذين قضوا سنوات طويلة حتى وصلوا إلى ذلك من خلال التدرُّب جسديًا وروحيًا ونفسيًا، وليس من الصواب أن نبدأ من حيث انتهى الآخرون.
نوعية الطعام:
من المهم الاهتمام بما هو بسيط ومفيد، وعدم الوقوع تحت تأثير أنواع معينة وأكلات معينة، بل بشكر نأكل ما يقوم بالأود، وإذا قُدِّر لنا أن نرى ماذا يأكل الناس في القرى والنجوع لشكرنا الله على كل شيء، كما يجب أن نشكره أيضًا إذا كان بإمكاننا أن نتناول كل طعام لأن هذه نعمة محروم منها كثيرون مُنِعت عنهم أطعمة كثيرة (مثل أنور وجدي وعبد الحليم وغيرهم).
يليق مع الصوم التناول، وقراءة ما يناسب خلال موسم الصوم. فالصوم يضعنا في جو روحي خاص إذا فهمناه ومارسناه بشكل سليم وكنسي، فهو فترة جهاد وشحن روحي، واقتراب أكثر من الله، وليس مجرد فلسفة من جهة كمية طعام أو موعد لتناوله، وإلاّ لكان الهنود أكثر مهارة وقوة في الصوم منّا.
الصوم لم يكن هدفًا، مَثَله في ذلك مَثَل بقية مفردات التدبير الروحي أو الفضائل، ولكنه وسيلة نتقرّب بها من الله، ولذلك كان الآباء يؤدِّبون البعض بالتخلّي عن الصوم، مثلما كانوا يؤدِّبون آخرين بالإمساك عن الطعام، وهو ما يُسمّى في التدبير الروحي بـ"شفاء الضد بالضد".
والله يُسرُّ بأصوامنا وصلواتنا، ويتقبّلها كذبيحة طاهرة، ولكنّه يُسرّ بالأولى بانشغالنا عن العالميات، والتصاقنا به، وقدرتنا على ضبط ذواتنا.