الهذيذ بمخافة الله يحفظ النفس من القتالات، وحديث أهل العالم والاختلاط بهم يُظلم النفس. محبة القنية تُزعج الفكر، والزهد فيها يمنحه معونةً. صون الإنسان لنفسه هو في أن يُقِرّ بأفكاره، ومَنْ يكتمها يثيرها عليه، والذي يُقِرّ بها يطردها عنه. مثل بيتٍ لا باب له ولا أقفال يدخل إليه كل مَنْ يقصده هكذا السائب اللسان. مثل الصدأ الذي يأكل الحديد، هكذا تكريم الناس يُفسِد القلب إذا مال إليه. وكما يلتفّ اللبلاب على الكرم فيُفسِد ثمرته هكذا المجد الباطل يُفسِد ثمرة الراهب عندما يلتفّ عليه، وكما يفعل الدود في الخشب هكذا تفعل الرذيلة في النفس.
اتضاع القلب يتقدّم (أو يتفوّق) على الفضائل كلها، وشهوة البطن أساس كل الأوجاع. الكبرياء هي أصل الشر كله، والمحبة هي كمال كل صلاح. أشرّ الرذائل كلها أن يُزكِّي الإنسان نفسه، والذي يرذل ذاته يعيش بدون قلق، والذي يظن في نفسه أنه لا عيب فيه فقد جمع في ذاته جميع العيوب.
الذي يخلط حديثه مع أهل العالم ينزعج قلبه، والذي يستهين بعفة جسده يخجل في صلاته. محبة العلمانيين تُظلم النفس، والابتعاد منهم يزيد المعرفة. محبة التعب عونٌ عظيم وأصل الهلاك هو الكسل. احفظ عينيك لئلاّ يمتلئ قلبك بأشباح (أو مناظر) خفية. مَنْ ينظر إلى امرأةٍ بلذّةٍ فقد أكمل الفسق بها. لا تحب أن تسمع عن زلةٍ لأحد إخوتك لئلاّ تدينه خفيةً. احفظ أذنيك لئلاّ تجمع لنفسك حزنًا في داخلك.
+++++++++++++++++++++++++++++++++++++++++++++++++++++++
الحرص والإفراز:
+++++++++++++
احرص أن تعمل بيديك ليجد المسكين خبزه منك، لأنّ البطالة موتٌ وسقوطٌ للنفس. مداومة الصلاة مهلكة للسبي (أي الأسر والعبودية)، ومَنْ يتوانى قليلًا فقد سُبيَ. مَنْ يتذكر خطاياه لا يُخطئ كثيرًا، ومَنْ لا يتذكرها يفسد بها. الذي يتأسف أمام الله فقد اهتم بتنقية طريقه من الخطية، والذي يقول: "دع هذا الأمر لوقته" يكون مسكنًا للخبث.
لا تكن قاسي القلب على أخيك لأننا جميعًا تغلبنا الأفكار السمجة. إذا سكنتَ مع إخوة فلا تأمرهم بأي عمل بل اتعب معهم لئلاّ يضيع أجرك. إذا حاربتك الشياطين بالأكل والشرب والملبس فلا تقبل منهم، وأظهِر لهم محقرة ذاتك فيهربوا منك. إن لذّ لك الزنى فحاربه بالاتضاع وأَلْقِ بنفسك أمام الله فتستريح. إن حوربتَ بحُسن جسدٍ فتذكر نتانته بعد الموت وأنت تستريح، وإن جاءتك أفكار النساء فاذكر أين ذهبَت الأوليات (السابقات) منهن وأين حسنهن وجمالهن، وكل هذه يختبرها الإفراز وينتقدها.
يستحيل أن يأتينا الإفراز إن لم نتعب في فلاحته التي أول أنواعها هو السكوت لأنه تاج الراهب، والسكوت يلد النسك، والنسك يلد البكاء، والبكاء يلد الخوف (المخافة)، والمخافة تلد الاتضاع، والاتضاع يلد بُعد النظر، وبُعد النظر يلد الحب، والحب يلد للنفس الصحة الخالية من الأسقام والأمراض، وحينئذٍ يعلم الإنسان أنه ليس بعيدًا من الله ويُعِدّ ذاته للموت، ومَنْ يريد أن يبلغ إلى هذه الكرامات كلها لا يهتم بأحدٍ من الناس ولا يدينه.
كلما صلَّى الإنسان يتفطّن فيما يقرِّبه من الله ويطلبه، ويُبغض هذا العالم، لأنّ نعمة الله تهب له كل صلاح. ولكن اعلم يقينًا أنّ كل إنسان يأكل ويشرب بتخليط (أي بأنواع كثيرة بلا ضابط) ويحب أمور هذا العالم لا يمكنه أن يلقى شيئًا من الصلاح ولا يدركه، وإنما هو يخدع نفسه.
إن آثرتَ أن تتوب إلى الله فاحترس من التنعُّم لأنه يثير جميع الأوجاع ويطرد مخافة الله من القلب، . اُطلب مخافة الله بكل طاقتك فهي تُهلك جميع الخطايا. لا تحب الراحة ما دُمتَ في هذه الدنيا، ولا تأمن إلى الجسد إذا رأيتَ ذاتك مستريحًا من الأوجاع في بعض الأحيان، لأن الأوجاع من طبعها أن تتوقف لبعض الوقت كنوعٍ من الخداع عسى أن يتوانى الإنسان عن التحفُّظ، حينئذٍ تنقضّ الأوجاع على النفس الشقية وتختطفها، ولهذا يحذّرنا ربنا قائلًا: "اسهروا"..