هناك ارتباط شديد في الكنيسة الأولى بين عيد القيامة وطقس المعمودية، لذا جعلت من الصوم الكبير ومن الفترة الليتورجية السابقة لعيد القيامة فترة تهيئة وإعداد للموعوظين المقبلين على التناصير.. باعتبار أن الأربعين المقدسة فترة إعادة اكتشاف مجددة لنعمة المعمودية بالنسبة (للمعمَدين)؛ وفترة إعداد وتهيئة ملائمة للمقبلين الجدُد (الموعوظين)،
لتكون نعمة المعمودية ونذرها غير غائبة عن حياتنا كسلوك ودعوة عليا؛ مستمرة في تغذية التقوى والحياة؛ سواء للموعوظين أو للمؤمنين المعمدين؛ على اعتبار أن المعمودية (سر فصحي) يعني العبور والاجتياز الذي تهيئ به الكنيسة نفسها (كلها) لنعمة السر.
وتضع الكنيسة إنجيل المولود أعمى في أحد التناصير؛ إشارة إلى نعمة المعمودية.. حيث جاء المسيح مجتازًا وأعطى نورًا وحياة للأعمى الذي كان يستعطي من بعد المر والشقاوة.. أتاه الذي يهب النظر للعميان؛ والذي يسمع الصُم أقواله.. أتاه المسيا المنتظر الذي شفى عمى البشرية المعتازة والتي كانت تستعطي. فحقق كمال النبوات، خلق له أعينًا جديدة بذات الخامة والطريقة التي بها جبل آدم في القديم. فمنذ الدهر لم يسمع أحد عن أن أحدًا فتح أعين مولود أعمى.. رأى الأعمى بينما هذا المولود أعمى لم يراه ولم يذهب إليه. أتى إليه الخالق الطبيب ليُظهر عمله ومجده فيه؛ كاشفًا عن أنه نور العالم الحقيقي؛ المرسل ليعمل أعمال الذي أرسله ما دام نهارًا.
جعل الذي كان بلا أعين أصلاً منذ ولادته الأولى يبصر، أعطاه حواسًا جديدة وصحح خلقته؛ ونقله من النقص والعمى إلى الكمال والإبصار.. أمره أن يغتسل بالماء لكي يبصر بقوة الكلمة (بغسل الماء بالكلمة)، أقامه من عماه؛ فماء معموديته يعطي ميلادًا جديدًا بالروح. وفي بركة سلوام (مُرسَل) يستنير من المسيح المرسل والصخرة التي فيها الحياة التي كانت نور الناس.. وقد جعل ماء معموديته لنا جميعًا ماء سلوام الروحية؛ ماء المرسل الذي ينبع إلى حياة أبدية ليهب بصيرة واستنارة واغتسالاً وتقديسًا وتبريرًا لكل من دعاهم ليتبعوه في التجديد؛ وليخبروا بفضائل من غيّر أشكالهم وجدد أذهانهم ودعاهم من الظلمة إلى نوره العجيب.
تفل وصنع طينًا وطلى بالطين عيني الأعمى؛ لأنه هو خالق جبلتنا وهو الفخاري الأعظم صانع الخليقة.. منحه عينين جديدتين وجبل له من الطين ما نقص لجبلته.. خلقهما ليبرهن أنه ذاك الخالق الأول والأوحد الذي شكّلت يداه آدم الأول من التراب؛ وهو الذي خلق له الآن مقلتي عين جديدتين؛ كونهما وصنعهما بيديه من الطين؛ وبنسمته جعل فيهما الحياة بعمل يديه.. تفل في الطين لأن التنفس هو الوظيفة البيولوجية التي تُبقي على الإنسان حيًا بعطية الله واستعادة الحياة بنسمة فيه.. أمر الأعمى أن يذهب ويغتسل في بركة سلوام (مرسل) لأنه هو المرسل رسول العهد؛ وهو النبع والنهر والصخرة الروحية؛ سر خلقتنا الجديدة واستنارتنا.. الذي أتى إلى هذا العالم لدينونة حتى يبصر الذين لا يبصرون (يو ٣٩:٩)..
وفي صلوات المعمودية تتردد أصداء هذه المعجزة عندما نطلب بإلحاح لكي ينعم علينا محب البشر والنفوس فيعمل فينا للشفاء ويمنحنا قوة العافية لنحيا للبر ونتطهر للتجديد، ويتحول قبحنا وعيبنا إلى بهاء؛ إذ لا شيء يصعب على سخاء عطاياه وقدرته الإلهية.. نطلب إليه كي [يفتخ عيوننا ومسامع قلوبنا لتستنير عيون قلوبنا وعقولنا حتى لا ننام نوم الموت؛ وحتى ننال روح الاستعلان وننفتح على روح الرؤيا ونور إعلان الأمم.. لذلك نطلب نعمة الاستنارة وترك الظلمة والاستضاءة بنور القيامة والمعرفة الحقيقية، فنضيء بشكله المحيي.. وننتقل ونتبدل ونتقدس بضياء أعمال الملكوت، الذي يمكّن عيوننا من قبول البهاء وينزع عنها كل غشاوة وظلمة تعطل الرؤية الإلهية].
وتضع الكنيسة قراءات من سفر طوبيا لما يحويه من إشارات كثيرة للمعمودية واستنارة عيني طوبيت؛ ومرافقة ملاك المعمودية لنا في رحلة غربتنا في هذا العالم... إننا يا سيدنا ومعنا عميان كثيرون نقف عند بركة سلوام لكي نجدك فنبصر عمل استعلانك الإلهي ورجاء دعوتنا التي بها قد ربحنا كل شيء.. كنا عميانًا مشوهين فارغين من النعمة وأتيت إلينا مجتازًا وخلقت لنا أعينًا جديدة؛ وحولت الماء الساذج الطبيعي المحسوس إلى قوة إلهية غير منطوق بها؛ حولتها إلى طبيعة حية والدة تهب الحياة الجديدة؛ وأعمالك غير المدركة صيرتها مدركة لنا وفينا. ودعوتنا لكي نبصر ونذوق الموهبة السماوية وشركة الروح القدس ومعاينة مجدك.
إنها دعوتك لكل البعيدين وذوي العاهات والمشوهين والناقصين كي يتكملوا ويصحّوا وينالوا جمالاً، فمبارك أنت يا الله الصانع العجائب وحدك؛ الذي تفعل كل شيء في كل أحد.. وتدعونا اليوم لنعيش ونتذكر مواطنتنا السماوية وتمتعنا بأطياب مائدتك الملوكية، فإن كنا نعرف تاريخ ميلادنا الجسدي ونحتفل به؛ فكم بالأولىَ علينا أن نذكر يوم معموديتنا وميلادنا الحقيقي من رحم المعمودية؛ وأن نذكر في أحد التناصير أيضًا خلقتنا الجديدة ومعموديتنا التي بها صرنا محسوبين مع شعب الله وخائفيه؛ هياكل للروح القدس ضمن الأسماء المكتوبة في سفر الوعد الثمين.
ابتداء من هذا الاسبوع " السامرية " حتى عيد القيامة، تقتبس الكنيسة قراءات إنجيل القدَّاس من إنجيل القديس يوحنا: فاليوم إنجيل السامرية، والأسبوع القادم إنجيل مريض بركة بيت حسدا، والأسبوع السادس إنجيل المولود أعمى، والسابع إنجيل دخول المسيح أورشليم وتطهير الهيكل، والثامن إنجيل عيد القيامة.
وهناك هدفان من وراء هذا الاختيار:
1 - إنجيل القديس يوحنا يختص باستعلان طبيعة السيد المسيح الإلهية، مخلِّص العالم، ابن الله وكلمة الله المتجسِّد.
2 - يتميَّز إنجيل القديس يوحنا بإظهار العلاقة الشخصية بين الإنسان والسيد المسيح، أيّاً كان هذا الإنسان: يهودي- أُممي - خاطئ - معلِّم الناموس - رجل - امرأة. فلا نسمع الكثير عن الكرازة الجماهيرية في إنجيل القديس يوحنا مثل الموعظة على الجبل التي جاء ذكرها في إنجيل القديس متى وإنجيل القديس لوقا.
فالقديس يوحنا يهتم بتقديم عينات من أفراد تلامسوا مع السيد المسيح وكشف لهم عن البصيرة الروحية، فعرفوا أنه المسيح مخلِّص العالم ابن الله، ليس عن طريق النبوَّات والناموس والأنبياء، بل عن طريق اختبارهم الشخصي مع المسيح؛ إذ غفر خطاياهم، شفى مرضاهم. فاكتشفوا محبته لهم شخصياً، وبعد ذلك ذهبوا يكرزون بما رأوه وسمعوه وشاهدوه بعيونهم ولمسته أيديهم من جهة كلمة الحياة.
فإنجيل القديس يوحنا هو إنجيل الراعي الصالح الذي يترك الـ 99 ليبحث عن خروف واحد ضال، وهو الذي يعرف خرافه بأسماء. هو إنجيل نيقوديموس الذي جاء ليلاً ليتقابل مع المسيح يناقش معه أبديته؛ وإنجيل مريض بركة بيت حسدا الذي لم يكن له إنسان وجاء إليه ابن الإنسان ليُخلِّصه. إنجيل المولود أعمى الذي تنكَّر له الجميع حتى والداه، ولكن المسيح وجده فآمن أنه المسيح ابن الله؛ إنجيل لعازر الذي كان يسوع يحبه؛ إنجيل مريم أخت لعازر التي وجدت سلامها وراحتها تحت قدمي المسيح.
هذا هو إنجيل القديس يوحنا، نتمتع فيه بلقاء شخصي مع المسيح خلال الصوم الكبير، حتى يأتي يوم الخلاص العظيم، وحينئذٍ أُدرك أن كل ما فعله الرب يسوع لم يكن إلاَّ من أجلي أنا بالذات. حينئذ أصرخ مع توما حينما لمس آثار المسامير في يدي الرب والحربة في جنبه وأُدرك عمق محبته لي، فأصرخ: ”ربي وإلهي“!
ليُعطِنَا الرب نعمة لنُدرك عمق هذه المحبة الشخصية ونعرف المسيح مخلِّصنا، حتى لا نسمع كلمة العتاب التي قالها السيد المسيح لفيلبُّس: «أنـا معكم زماناً هذه مدَّته ولم تعرفني يا فيلبُّس» (يو14: 9)؟؟
وقد اختبر الآباء محبة الله في حياتهم شخصياً، وصارت اختباراتهم هذه شهادة للمسيح. فنسمع القديس غريغوريوس الثيئولوغوس (الناطق بـالإلهيات) في صلوات القداس المعروف باسمه يخاطب السيد المسيح قائلاً: ”وضعتَ ذاتك وأخذتَ شكل العبد“. ثم يسترسل قائـلاً: ”... بـاركتَ طبيعتي فيك. أكملتَ ناموسك عني. أريتني القيام من سقطتي... لأجلي يا سيدي لم تَردَّ وجهك عن خِزي البصاق“.
وهكذا كأن كل تدبير الخلاص الإلهي كان من أجله هو وحده. ولهذا أطلقت عليه الكنيسة لقب الناطق بالإلهيات أو اللاهوتي (الوحيد من الآباء بعد القديس يوحنا الذي نال هذا اللقب، ولم يتعلَّم علم اللاهوت من كتب اللاهوت ولكن من عشرته مع الله واختباراته الخاصة. وُلد سنة 328 وتنيح سنة 390).
واليوم تقدِّم لنا الكنيسة لقاء المرأة السامرية مع السيد المسيح كنموذج للقاء كل إنسان مع المسيح.
والسامرة منطقة بين الجليل في الشمال واليهودية في الجنوب، وأهل السامرة هم بقايا العشرة أسباط الذين رجعوا من السبى وسكنوا في الشمال من أرض كنعان. وبسبب اختلاطهم بالأُمم وتزاوجهم معهم، فقدوا شخصيتهم كيهود وحُرِموا من العبادة في هيكل أورشليم، فكان لهم هيكلهم الخاص على جبل جرزيم، وتقع بئر يعقوب - التي جلس عليها السيد المسيح - على سفح هذا الجبل. وعلى جبل جرزيم تقابل أبو الآباء إبراهيم مع ملكي صادق. والمعروف أن يعقوب أبا الأسباط لمَّا رجع من فدان آرام، بنى مذبحاً هناك ودعاه إيل إله إسرائيل. وتقول التقاليد أيضاً إن إبراهيم بنى مذبحاً على جرزيم لتقديم إسحق ذبيحة عليه