محبة الناس هى لكل الناس جميعاً. فالبشر كلهم أقرباء بعضهم لبعض كلهم أبناء آدم وأبناء حواء. خلقهم اللَّه من هذيْن الأبويْن ليكونوا جميعاً أسرة واحدة، تربطهم رابطة الدم، وبالتالي رابطة الحُب.
لهذا فإن عدم الحب بين البشر هو أمر غير طبيعي. وهو فى نفس الوقت لا يتفق مع الصالح العام، كما لا يتفق مع مشيئة اللَّه ولا مع وصاياه.
«« والعجيب أن أول إيذاء حدثنا عنه التاريخ كان من إنسان ضد إنسان، ولم يكن من وحش افترس إنساناً. وهكذا فإن هابيل البار قام عليه أخوه وقتله. وبدأت البُغضة والقسوة بين الناس. ولم تستطع البشرية أن تحتفظ بالحب حتى بين أفراد الأسرة الواحدة. ومعروفة قصة يوسف الصِّدِّيق مع إخوته ... وتتابعت مأساة فقدان الحب فى تاريخ البشرية. وكثرت قصص العداوة والبغضاء، وقصص الحسد والغيرة وتصادم الأغراض، والنزاعات والحروب، والتنافس على الرزق وعلى السُّلطة والمناصب. واكتست الأرض بدماء بريئة وبدماء غير بريئة، وأصبح الأخ يعتدي على أخيه والأخ يخاف أخاه. حتى قال أحد الشعراء:
عوى الذئب فاستئنست بالذئب إذ عوى
...
وصوت إنسان فكدت أطير
«« وقدَّم لنا اللَّه وصايا لإعادة المحبة بين الناس، وتقديم القدوة في ذلك، ومعالجة الأسباب التي أوصلت البشرية إلى التخاصُم والعداوة والقسوة. وقام المصلحون الاجتماعيون والرعاة الروحيون لبذل أقصى الجهد فى العمل على ترميم بناء المحبة المنهدمة. كما وضع اللَّه الأُسُس للتعامل بين الناس: أمَّا الأساس الإيجابي، فهو مشاعر الود والتعاطف والتعاون. وأما الأساس السلبي فهو الكف عن الكراهية والاعتداء. فالكراهية هى المشاعر الكامنة داخل القلب. والاعتداء هو التعبير الظاهر عن تلك المشاعر الداخلية ... والمطلوب هو الارتقاء بكل مشاعر الإنسان للوصول إلى مستويات الحُب. والحُب هو القمة التى تصل إليها المشاعر البشرية. وفي يوم الدينونة العظيم، ستفحص كل أعمالنا وعواطفنا، ويُستخلص ما فيها من حب، فيكافئنا اللَّه عليه. على أن هذا الحب له قواعد ينبغي أن نعرفها، لكى تكون محبتنا بعضنا للبعض سليمة ومقبولة.
«« أولاً ينبغى أن تكون محبتنا للناس داخل محبتنا للَّه. فلا تكون ضدها، ولا تزيد عليها. فلا نحب أحداً عن طريق كسر وصية من وصايا اللَّه. فالصديق الذى يحب صديقه بحيث يُجامله فى كل خطأ، ويخشَى أن يُقدِّم له نصيحة مخلصة لئلا تجرح شعوره. هنا لا يحبه بالحقيقة. والأم التى تُدلِّل ابنها تدليلاً يُفسده، أو تُغطي على أخطائه. بحيث لا يعرفها أبوه. لا تكون محبتها لابنها محبة حقيقية ولا نافعة. بل لا نُسمِّيها حباً إنما تدليلاً.
«« ومن شروط المحبة الحقيقية أن تكون عملية. فتظهر محبتنا للناس فى معاملاتنا لهم، فى اخلاصنا لهم، ومشاركتنا الوجدانية، ووقفنا معهم فى وقت الشدة، وتخليصنا لهم من ضيقاتهم. ومحبتنا للفقراء تظهر فى عطفنا عليهم، وإعطائهم ما يلزمهم. وليست فى مُجرد كلام العطف أو الدُّعاء. وهكذا ارتبط الحب عموماً بالعطاء بل والبذل. فلا يوجد حُب أعظم من هذا أن يبذل أحد نفسه لأجل الآخرين. ويظهر الحُب والعطاء بالأكثر، فى أن يُعطي الإنسان من أعوازه، وأن يضحي باحتياجاته سبباً فى إسعاد الآخرين. وهنا نقول إن المحبة لا تطلب ما لنفسها بل بما لغيرها.
«« ومن شروط المحبة أن تكون طاهرة. فمحبة شاب لفتاة، لا يمكن أن تكون محبة حقيقية اطلاقاً، إن كان يفسد عفتها، ويفقدها سمعتها فى المجتمع الذى تعيش فيه، ويضيع أبديتها. ومثل هذا الشاب لا نقول إنه يحب الفتاة، إنما يحب نفسه محبة خاطئة، ويحب اشباع شهواته، ولا يهتم بصالح الفتاة. وهنا أُكرِّر ما قُلته من قبل فى الفرق بين المحبة والشهوة: ( المحبة تريد دائماً أن تُعطي. بينما الشهوة تريد دائماً أن تأخذ ).
«« ومن شروط المحبة أنها تكون صادقة أى أن تكون المحبة بلا رياء ولا نفاق. ويدخل فى ذلك أيضاً كل كلام الملق، والمديح الكاذب. ولا تكون محبة فيمن يُساعد غيره على إهلاك نفسه أو على ارتكاب خطاياه. إنما المحبة الحقيقية هى محبة روحانية. فيها تحب شخصاً بأن تساعده على حياة البِرّ، ولا تشاركه في خطأ، ولا توافقه على ذلك ولا تنصحه به.
«« والقلب المُحب لا يعرف البغضة مطلقاً. فهو بالبغضة يكون بعيداً عن اللَّه والناس، لأن اللَّه محبة. والقلب المُحِب لا ينتقم لنفسه، ولا يرد الإساءة بإساءة. لأنَّ الإنتقام هو لون من الكراهية والعداوة والقساوة. وأيضاً هو لون من محبة الذات لا محبة الغير. لذلك يُعلِّمنا الدين أنه: إن جاع عدوك فاطعمه وإن عطش فاسقهِ.
«« والمحبة تكون محبة للكل، ولا تكون أبداً تحيُّزاً لجنس أو لون أو دين، بلا تمييز بسبب شيء من هذا كله، بل ملتزمة بالحق والموضوعية. ومن أنواع المحبة: محبة الأبوة والأمومة، ومحبة البنوة والأخوة، ومحبة الأزواج، ومحبة الأصدقاء، ومحبة العشيرة، ومحبة الوطن، ومحبة بيت اللَّه، ومحبة الفريق، ومحبة المُجتمع كله. وهكذا توجد المحبة العامة التي تشمل العالم أجمع. وما أكثر ما نقرأ عن الهيئات العالمية التي تعمل في نطاق الخير والإغاثة، لأي شعب على وجه الأرض ... وهنا تظهر أيضاً المحبة للغرباء.
«« وأسمَى درجة من المحبة هى المحبة للأعداء. فعدونا الوحيد هو الشيطان، أمَّا الباقون الذين يُسمُّون أعداء فهم ضحايا ذلك الشيطان، ينبغي أن نُصلِّي من أجلهم أن يهديهم اللَّه ويُغيِّر سلوكهم، من أجل أنفسهم وأبديتهم ومن أجلنا أيضاً. وقد يقول البعض: " من الصعب عليَّ أن أحب عدوِّي. فماذا أفعل؟ "، أقول لك: على الأقل لا تبغضه، وحاول أن تغفر له في قلبك وتسامحه. وأيضاً لا تشمت به إذا فشل، ولا تفرح إطلاقاً بسقوطه. فهذا أيضاً يفقدك نقاوة قلبك.