كثيرة هي الأسباب التي لأجلها أخلي ذاته ، نذكر منها :
1 ـ لكي نستطيع أن نتمتع به ونوجد معه :
لو أنه ظهر في جلال لاهوته ، ما كان إنسان يستطيع أن يقترب إليه ... ما كان تلميذه يوحنا يجرؤ أن يتكئ على صدره ، وما كان الأطفال يسطيعون أن يجروا نحوه ويحيطوا به ويهرعوا إلى حضنه ، وما كانت المرأة الخاطئة تستطيع أن تتقدم نحوه وتمسح قدميه بشعرها . بل ما كانت العذراء تستطيع أن تحمله على كتفها أو ترضعه من ثديها .
لو كان قد نزل في قوة لاهوته ، لكان الناس يرتعبون منه ويخافون ... إن الرب عندما نزل على الجبل ليعطي الوصايا العشر . " أرتجف كل الجبل جداً ، وصار كل الجبل يدخن ، وصعد دخانه كدخان الأتون " ( خر19 : 18 ) و " أرتعد الشعب ووقفوا من بعيد . وقالوا لموسى : تكلم أنت معنا فنسمع . ولا يتكلم معنا الله لئلا نموت " ( خز20 : 18 ، 19 ) . وهكذا رأي الرب أن يخلي ذاته ، حتى يمكن للناس أن يختلطوا به دون أن ترعبهم هيبته ، أو يصدهم جلاله
إن موسى النبي ، عبد الرب ، عندما قضي معه أياماً على الجبل لأخذ اللوحين نزل فإذا وجهه يلمع لم يستطيع الناس أن يحتملوه : " فخافوا أن يقتربوا إليه " ( لذلك كان يضع على وجهه برقعاً حتى يحتمل الشعب أن ينظروا إليه ( خر34 : 29 ـ، 35 ) .
فإن كان هذا هو الجلال الذي أخذه موسى من عشرته للرب ، فماذا يكون جلال الرب نفسه ؟! وإن كان الناس لم يحتملوا النور الذي على وجه موسى وهو نازل من عند الرب ، فكيف تراهم كانوا يحتملون نور مجد الرب الذي قال عنه القديس يوحنا الرسول في رؤياه أن: " وجهه كالشمس وهي تضئ في قوتها " ( رؤ1 : 16 ) ؟!
إنه عندما ظهر لشاول الطرسوسي ، بهرت عيناه من قوة النور . وظل فترة لا يبصر والقشور تغطي عينية . فمن كان يحتمل أن يرى الرب في مجده ... من يرى الرب ويعيش ؟!
وعندما أظهر الرب شيئاً من مجد لاهوته على جبل التجلي ، كان التلاميذ مرتعبين ، ولم يكن بطرس يعلم ما يتكلم به ( مر9 : 6 ) . ولما سمعوا الصوت من السحابة : " سقطوا على وجوههم ، وخافوا جداً " ( مت17 : 6 ) . كيف كان ممكناً إذن أن يحتمل الناس مجد الرب لو لم يخل ذاته ؟ وهو أيضاً من أجل إنكاره لذاته ، لم يأخذ معه كل تلاميذه إلى جبل التجلي ، ولم يعلن هذا المجد للجميع . وحتي الذين شاهدوا مجده : " أوصاهم أن لا يحدثوا أحداً بما أبصروا إلا متى قام ... " ( مر9 : 9 ) .
إن إخفاءه لأمجاده مظهر آخر من إخلاء الذات ...
كان الرب يستطيع باستمرار أن يكون في مجد التجلي بين الناس ، ولكنه لم يفعل . كان يريد أن يتمتعوا به ، ويختلطوا به ، لا أن يهربوه .
ولماذا أيضاً أخلي ذاته ؟
2 ـ أراد أن يصحح فكرة الناس عن الألوهية :
لقد إقترب إلينا حتى لا تظل فكرة الناس عن الألوهية أن الله جبار ومخيف فأراد أن يجذبنا بالحب لا بالخوف .
أراد أن يدخل قلوبنا عن طريق محبته ، لا عن طريق مخافته . وهكذا نري أنه عندما رفضت إحدي قري السامرة أن تقبله ، رفض أن يسمع لتلميذه اللذين طلبا أن تنزل نار من السماء وتفني تلك القرية ، ووبخها قائلاً : " لستما تعلمان من أي روح أنتما " ( لو9 : 55 ) . إنه لم يشأ أن يرهب أهل السامرة بقوته ، بل أن يكسبهم بمحبته . وصبر معلمنا الصالح إلى أن جاء الوقت الذي دخل فيه أهل السامرة بالمحية والترحاب لا بالنار النازلة من السماء ...
الله لا يريد أن يكون مخيفاً بل محبوباً . الناس بطبيعتهم ينفرون ممن يخافونه . وقد يخضعون له في ذل ، لكنهم ينفرون منه في قلوبهم ...
كان التلاميذ يريدونه قوياً جباراً مهاباً ، بحسب فهمهم البشري ، لذلك انتهروا الذين قدموا الأطفال إليه . أما هو ، فقال لهم : " دعوا الأولاد يأتون إلى ولا تمنعوهم ... " . وأخذ الأولاد : " وإحتضنهم ، ووضع يديه عليهم وباركهم " ( مر10 : 13 ـ 16 ) . وكذلك عندما إنتهر التلاميذ الأعمين الصارخين نحوه ، وقف المسيح وناداهما ، وتحنن ، ولمس أعينهما فأبصره وتبعاه ( مت20 : 30 ـ 34 ) .
3 ـ وأخلي الرب ذاته لبعالج السقطة الأولي :
ماذا كانت السقطة الأولي سوي الكبرياء ، سواء سقطة الشيطان أو سقطة الإنسان ؟! فالشيطان قال في قلبه : " أصعد إلى السموات ، أرفع كرسي فوق كواكب الله ... أصير مثل العلي " ( إش14 : 13 ، 14 ) . وعندما أسقط أبوينا الأولين أغراهما بقوله : " تنفتح أعينكما ، وتكونان مثل الله ... " ( تك3 : 5 ) .
أخلي الله ذاته آخذاً صورة العبد ، لكي يعطي درساً للعبد الذي أراد أن يرفع ذاته ويصير إلهاً . وهكذا صار إبن الله الوحيد إبناً للإنسان ، ليعالج كبرياء الإنسان ويجعله إبناً لله ، بالإتضاع الذي إتضع به إبن الله ، وليس بكبرياء السقطة الأولي ...
وهكذا في إخلائه لذاته قيل إنه شابه : " أخوته " في كل شئ ... ( عب2 ك 17 ) .
إن الرب عندما يسمي عبيده ومخلوقاته أخوة له ، إنما يبكت الذين يعاملون إخوتهم كعبيد لهم ، أولئك الذين يؤلهون أنفسهم كلما ينالون مركزاً أعلي من إخوتهم ... أما السيد المسيح إلهنا فلم يفعل هكذا ... لقد أخلي ذاته ، حتى استطاع بطرس أن يأخذه إليه وينتهره قائلاً : " حاشاك يارب ... " ( مت16 : 22 ) . وسمح لكثيرين أن يجدلوه ويناقشوه ، بعكس كثرين من البشر الذين لا يقبلون جدالاً من أحد وكان تلاميذه يحاورنه حسبما يريدون حتى سموهم " الحواريين " ...
وهكذا أخلي السيد المسيح ذاته ، وصار كواحد منا ... أراد الإنسان أن يرتفع ويصير مثل الله . فنزل الله وصار مثل الإنسان ... لكي ينيله بغته ، ولكن بطريقة سليمة ، بإتضاع الله لا بأرتفاع الإنسان ....
الإنسان كان يريد أن يقف مع الله في صف واحد ... فبدلاً من أن يرتفع الإنسان ليقف مع الله ، نزل الله ليقف مع الإنسان . ليكما بنزوله يخجل الإنسان وتنسحق نفسه ويتضع قلبه . وباتضاعه يقترب إلى صورة الله المتضع . لقد أخذ الرب صورة العبد ، لكي يخفض من تشامخ السادة ...
فليتنا نتضع كلما تأملناه إخلاء الرب لذاته . ليتنا نتضع نحن الذين كلما أعطينا سلطاناً في أيدينا ، نريد أن تميد الأرض تحت أقدامنا ، وترتعش السموات من فوق ...