إن حياة الإنسان تقاس أو تقيّم، بمقدار ما يقدّمه من عطاء. لذلك فكل يوم يمّر عليك، دون أن تعطى فيه شيئاً لغيرك، لا تحسب هذا اليوم من أيام حياتك...
ومن جهة العطاء، وضع سليمان الحكيم وصيتين ذهبيتين هما: "لا تمنع الخير عن أهله، حين يكون فى طاقة يدك أن تفعله" "لا تقل لصاحبك اذهب وعُدْ غداً فأعطيك، وموجود عندك" الواجب اذن أن تعطى، ولا تؤجل العطاء إلى غدِِ
****
فإن أنعم الله عليك ببعض الخيرات، فلا تظن أنها كلها لك وحدك!
بل الله - فيما يعطيك - إنما يختبرك: هل أنت بدورك سوف تعطى أيضاً؟ أم سوف تملكك الأنانية فتستأسر بكل شئ لذاتك دون غيرك!!
إن العطاء هو خروج من محبة الذات إلى محبة (الآخر). والعطاء يحمل فضيلة البذل، وشيئاً من فضيلة التجرد، وبعداً عن الجمع والتكويم.
والذى يتصف بالعطاء، يدل على أن المال ليس هو الذى يملُكه، بل هو الذى يملُك المال وينفقه فى خير الآخرين.
****
والعطاء على درجات كثيرة: أولها التدرب على العطاء، ثم النمو فيه.
+ تدرب أولاً على أن كل ما يصلك من خير، إعطِ منه للغير.
وثِق أن ما تعطيه منه، إنما يجعل البركة فيما تبقى، فيزداد... وأيضاً ما تحصل عليه من محبة ودعاء ممن أعطيتهم يكون أكثر بمراحل من العطية ذاتها. وتكسب بذلك أصدقاء يشفعون فيك أمام الله...
وهكذا يكون العطاء خيراً للمُعطي، ولمن يتقبل العطية.
ومثال ذلك الأم التى تُعطي من لبنها لرضيعها: يسعد هذا الابن برضاعته، وتستريح الأم أيضاً وتسعد. وبنفس الوضع يسعد المُعطي حينما يرى فرح من يتقبل أيضاً عطاءه، فيفرح بفرحه. إن الشجرة تنتعش حينما يرويها الفلاح. كما ينتعش الفلاح بذلك ويفرح بانتعاش الشجرة...
****
ويتقدم الإنسان فى العطاء، فيصل إلى السخاء والكرم:
فيعطي بسخاء وليس بتقتير، ولا بحسابٍ دقيق! ليس فقط ما يكفى بالكاد حاجة غيره، وإنما بالأكثر ما يفيض.
ويُعطي ليس فقط ما يطلبه الناس، وإنما ما يحتاجون إليه حتى دون أن يطلبوا. كالأب الذى يعطى لإبنه ما يحتاجه، ولا ينتظر حتى يطلب...
وهكذا الله - تبارك اسمه - يعطينا دون أن نطلب، وفوق ما نطلب...
وهو بهذا يقدم لنا درساً فى العطاء وكيف يكون. سواء كان ذلك بالنسبة إلى الأفراد، أو إلى المجتمع جملةً... إلى الذين يعرفون كيف يُعبّرون عن احتياجاتهم، والذين ليست لهم القدرة على ذلك أو الوسيلة...
****
ويرتقي العطاء، فيصل إلى أن يُعطي الإنسان أفضل ما عنده:
ليس فقط الأشياء البالية أو المرفوضة منه. فليس في هذا احترام للذي يأخذ. إنما يُعطي الأشياء التى يتشرف بها الآخذ. وإن كان المثل يقول "إن الهدايا على قدر مُهديها"، فهل نقول أيضاً إن العطايا على قدر مُعطيها، مع احترام من تُعطىَ إليه...
****
ومن النبل أيضاً: العطاء من العوز، أى تُعطي ما أنت محتاج إليه!
وهنا ننبّه إلى أن فضيلة العطاء، ليست هى فقط للأغنياء القادرين الذين يفيض المال عنهم. إنما يقوم بها أيضاً أهل الخير الذين يدفعون من أعوازهم، وبهذا يُفضّلون غيرهم على أنفسهم. ولا شك أن هؤلاء الذين يعطون رغم عوزهم، يكونون عند الله أكثر أجراً، كما يكونون عند الناس أكثر تقديراً...
،، البقية غداً ،، بمشيئة الرب