والعطاء الحقيقي هو العطاء بفرح:
فلا يُعطي الإنسان نتيجة ضغط وإضطرار، أو وهو ساخط ومتذمر، أو خوفاً من إنتقاد الناس!! فمن يفعل ذلك، إنما يُعطي من جيبه، وليس من قلبه، ولاينال من الله أجراً على ما يُعطيه...
أما الذي يُعطي عن حب وإشفاق، ويفرح للخير الذي يقدمه لغيره بعطائه، فهذا هو المقبول أمام الله والناس...
****
قديماً كان الناس يعطون ما يسمى بالبكور:
أي أوائل الأشياء. فيُعطي الشخص أول نتاج زرعه أو غنمه. كما يُعطي أول ثمار شجره. وهكذا يبارك الله كل ما له في حقله.
على أن الأمر الآن لم يعد قاصراً على المجال الزراعي، بل إمتد إلى الوظائف والحرف. وأصبحت فضيلة البكور لها إتجاه آخر:
فيُمكن للموظف أن يقدّم أول مرتب له وأول علاوة له لعمل الخير. والمدرّس بالإضافة إلى المرتب يقدم ما يأخذه من أول درس خصوصي، وكذلك المحامي من أول أجر على قضية، والطبيب كذلك يدفع لأوجه الخير ما يصل إليه من أول كشف وأول عملية.. وهكذا الباقون...
وبهذا يبارك الله دخل كل هؤلاء، لأن أول إيراد لهم لم يكن لأنفسهم، بل كان عطاءً منهم لغيرهم...
****
ومن صفات العطاء أن يكون بمدامة:
لأن هناك من يدفع مرة أو مرتين، ثم يسأم ويملّ، ويرفض اذا طُلبَ مه أكثر... أما القلب الواسع فهو لا يملّ من طلبات المحتاجين، بل يُعطيهم مهما طلبوا، برضىّ مقدراً لإعوازهم...
كذلك لا يكون العطاء بكل تحقيق وتدقيق:
ولا بإهانة الطالبين، ووصفهم بالكذب والاحتيال. فإن كان البعض يطلب عن غير إستحقاق، فليس الكل كذلك. ونحن في عصر، غالبية الناس فيه محتاجون: ليس فقط الذين يُقاسون من البطالة، بل أيضاً أصحاب الدخل المحدود، مهما كانت مرتباتهم. وبخاصة إن وقع أحدهم في مشكلة مالية، تتعلق بمرض أو عملية جراحية، أو تكاليف زواج إبنه، أو احتياج إلى سكن، وما إلى ذلك...
****
هناك نوع آخر من العطاء هو العطاء المعنوي، غير المادي:
كمن يُعطي كلمة عزاء لإنسان حزين، أو يُعطي كلمة تشجيع لمن هو يائس أو واقع في صغر النفس، أو يُعطي عبارة حنان لطفل يتيم، أو كلمة منفعة لمن يحتاج إليها، ومثل ذلك من الأمور...
كذلك يوصف بالعطاء من قدموا للناس فكراً نافعاً، أو فناً مفيداً، أو علماً وكان له تأثيره في راحة الناس أو في علاجهم أو في تعمير الأرض. ولا أقصد العلم أو الفن الذي أسئ استخدامه. كل أولئك كان في حياتهم عنصر العطاء، كل في تخصصه.
****
على أن قمة العطاء تتمثل في من يُعطي نفسه لأجل غيره:
أي أنه يفدي غيره بذاته... مثال ذلك من يفدي وطنه بحياته، أو يبذل حياته من أجل دينه أو من أجل مبدأ من المبادئ السامية، أو من يقدم حياته لإنقاذ غريق، أو إنقاذ أسرة من الحريق. ولا يوجد حب أعظم من هذا: أن يضع أحد نفسه عن أحبائه...
إن الإنسان يبذل نفسه لأجل غيره، يذكّرنا بالشمعة التي تذوب لكي تنير للآخرين، ويذكّرنا أيضاً بحبة البخور التي تحترق تماماً لكي تُعطي بخوراَ عطراَ للغير... إنها أمثلة واضحة لبذل الذات كاملة..
****
بقى سؤال هام، وهو: ماذا عن الذين يريدون أن يعطوا وليس لهم؟
إنه عطاء بالنية، والله هو فاحص القلوب، والعارف بقدرة كل شخص أو عدم قدرته. ونحن نُصلّي من أجلهم في الكنيسة ونقول: "أذكر يارب الذين يريدون أن يقدموا لك وليس لهم. عوّضهم عِوض الفانيات بالباقيات.