ويشرح القديس بولس الرسول طول أناة الله على الأمم في رسالة رومية: «أم تستَهينُ بغِنَى لُطفِهِ وإمهالِهِ وطول أناتِهِ، غَيرَ عالِمٍ أنَّ لُطفَ اللهِ إنَّما يَقتادُكَ إلَى التَّوْبَةِ؟ ولكنكَ مِنْ أجلِ قَساوَتِكَ وقَلبِكَ غَيرِ التّائبِ، تذخَرُ لنَفسِكَ غَضَبًا في يومِ الغَضَبِ واستِعلانِ دَينونَةِ اللهِ العادِلَةِ، الّذي سيُجازي كُلَّ واحِدٍ حَسَبَ أعمالِهِ» (رومية2: 4-6).
وأطال الله أناته كثيرًا على الكثير من الخطاة ومنهم العتاة، وتحوّل الكثير منهم إلى قديسين بل وشهداء، مثل القديس أغسطينوس الذي تاب بل وصار راهبًا بل أسقفًا، وصار نموذجًا للتائبين، وكتب اعترافاته يؤكِّد فيها أن طول أناة الله هي التي اقتادته إلى التوبة، ونذكر القديسات: تاييس وبائيسة ومريم القبطية، والقديس موسى الأسود الذي تحوّل إلى أب رهبنة، وكانت الصفة الغالبة عليه هي التحنّن على الخطاة، وظهر ذلك في ترفّقه باللصوص وعدم إدانة الخاطئ، ولعله تسلّم ذلك من القديس إيسيذوروس والذي كُتِب عنه أن كل من ملَّ منه الآباء واستنفذوا معه كل الطرق، يأخذه هو بسبب طول أناته.
طول أناة الإنسان:
قيل عن البعض إنه حمي غضبهم، مثل يعقوب: «فحَميَ غَضَبُ يعقوبَ علَى راحيلَ وقالَ: "ألَعَلّي مَكانَ اللهِ الّذي مَنَعَ عنكِ ثَمرَةَ البَطنِ؟"». (تكوين30: 2)، كما حمي غضب موسى عندما اقترب إلى المحلة فأبصر العجل، وطرح اللوحين من يديه و كسرهما في أسفل الجبل (خروج32: 19)، وحمي غضب بلعام على حماره حين أبصرت ملاك الرب فربضت تحت بلعام، فضرب الآتان بالقضيب (عدد22: 27)، وكذلك لما سمع زبول رئيس المدينة كلام جعل بن عابد حمي غضبه (قضاة9: 30)، وحدث ذلك أيضًا مع شمشون تجاه أشقلون (قضاة14: 19)، وحمي غضب ألياب أخو داود خوفًا عليه من جليات (صموئيل الأول17: 28)، وحمي غضب شاول على يوناثان بسبب صداقته لداود (صموئيل الأول20: 30).
وكما يطيل الله أناته علينا يجب أن نفعل نحن مع الآخرين حين يتكلمون كثيرًا ويلحّون فتشعر بالاختناق، حين تكون رائحتهم تثير أعصابك فتحتمل، وحين لا يفهمون بالسرعة التي تتوقّعها أطل أناتك، وحين تطلب شيئًا ويتأخّر في وصوله أطل أناتك عليه، وعندما يتعثّر طفل في الفهم أو الإجابة أطل أناتك عليه، وإذا كانت الزوجة لا تجيد الطبخ أو القيام بمهام البيت الجديد أطل أناتك عليها فيما يُطلَق عليه: "سنة أولى زواج"، وإذا كانت ما تزال تتصل بذويها وهي متعلقة بهم فأطل أناتك عليها لأنها لم تعتد بعد الحياة الجديدة.
من بين الأشخاص الذين أتعجّب من طول أناتهم بائعي الثياب والأكسسوارات لا سيما للسيدات، فالزبائن يختارون في ساعات ويفاصلون ويترددون ويعيدون ما اشتروه، والبائع يبتسم ويلاطف ويحضر البدائل ويحتمل السخافات والميوعة، وهو بذلك يبيع ويكسب الزبائن ويعينهم في اختيار ما يناسب، ويعتبر ذلك جزءًا من عمله وهو الاحتفاظ بالزبون، وهذه هي الفكرة بالضبط من جهة علاقة الله بالبشر، فإن طول أناة الله هي خط الرجعة للبشر، دون اتخاذ موقف أو غلق الباب.
تعلّم أيضا "كظم غيظك" (وهو كتم النفس مقبال طول النفس وقصره، فيُقال فلان نفسه قصير، أو غير طويل البال...).
وطول الأناة هو من ثمر الروح القدس في المؤمن (غلاطية5: 22)، عندما يعمل الروح القدس في إنسان يثمر هذا الهدوء وطول الأناة. ويطلب الرسول بولس من المؤمنين لكي يسلكوا "بطول أناة" نحو بعضهم البعض »فَأَطْلُبُ إِلَيْكُمْ، أَنَا الأَسِيرَ فِي الرَّبِّ: أَنْ تَسْلُكُوا... بِكُلِّ تَوَاضُعٍ، وَوَدَاعَةٍ، وَبِطُولِ أَنَاةٍ، مُحْتَمِلِينَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فِي الْمَحَبَّةِ» (أفسس4: 2)، وأيضًا: «مُتَقَوِّينَ بِكُلِّ قُوَّةٍ بِحَسَبِ قُدْرَةِ مَجْدِهِ، لِكُلِّ صَبْرٍ وَطُولِ أَنَاةٍ بِفَرَحٍ» (كولوسي1: 11)، «فَالْبَسُوا كَمُخْتَارِي اللهِ الْقِدِّيسِينَ الْمَحْبُوبِينَ أَحْشَاءَ رَأْفَاتٍ، وَلُطْفًا، وَتَوَاضُعًا، وَوَدَاعَةً، وَطُولَ أَنَاةٍ، 13مُحْتَمِلِينَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا» (كولوسي3: 12).
وطول الأناة يرتبط بالمحبة، إذ يحتاج الإنسان إلى طاقة حب لكي يطيل أناته، إنني أتوقّف كثيرًا عند قول الكتاب عن لقاء السيد المسيح بالشاب الغني: «فنَظَرَ إليهِ يَسوعُ وأحَبَّهُ...» (مرقس10: 21)، فالمحبة «تتأنّى وترفق» (كورنثوس الأولى13: 4). طول أناة الأم نابع من محبتها لابنها، وكذلك الخادم، وكلهم تعلموا من الله الطويل الأناه. لقد أطال المسيح أناته على تلاميذه، سواء في قلّة فهمهم، أو حين لم يقدروا أن يسهروا معه ساعة واحدة في بستان جثسيماتي (متى26)، أو في صراعهم على من يكون أولاً (متى20: 26)، أو في هربهم أثناء القبض عليه، أو في شكوكهم مثل ما فعل توما (يوحنا20)، وخوفهم واختبائهم أو شكهم في قيامته (مرقس16).. ولكنه تأني عليهم وصبر، وشدّد أيديهم وأرجلهم.
لقد رتّلنا في صوم نينوى، وسنفعل في الصوم الكبير، لحن "بي ماي رومي pimairwmi" والذي تقول بعض كلماته: "...رؤوف هو مخلصي يتراءف على شعبه، كصالح ومحب البشر ارحمنا كعظيم رحمتك"