فلسفة السيد المسيح:
اعتاد السيد المسيح أن يستخدم طريقة الرد على السؤال بسؤال، فخرج السيد المسيح عن الدائرة وبدأ يتكلم في اتجاه آخر... «وأمّا يَسوعُ فانحَنَى إلَى أسفَلُ وكانَ يَكتُبُ بإصبِعِهِ علَى الأرضِ» (يوحنا 8: 6): هل انحني خجلًا وألمًا وحسرة على الخطاة وعلى القساة معًا؟ أم انحني يكتب وكأنه لم يسمعهم؟!! إنها المرة الوحيده التي كتب فيها المسيح!! أم كان يكتب خطاياهم كما يرى البعض؟ أم رافق السؤال الاستنكاري (من منكم...) بالكتابة لترك الفرصة لفحص النفس! ربما كانت الكتابة على الأرض نوعًا من كسب الوقت، أو فرصة لتهدأ النفوس وتحدث المواجهة. ولكن إرميا النبي يقول: «الحائدونَ عَنّي في التُّرابِ يُكتَبونَ» (إرميا 17: 13).
+ + +
المسيح لا يشجع على الخطية:
إن المبدأ الذي يرسيه السيد المسيح هنا هو أنه: «لا يحق لإنسان أن يدين سواه، لا سيما إذا كان هو أسير نفس الداء... لا تدينوا لكي لا تدانوا... بالكيل الذي به تكيلون يُكال لكم...»، لم يقل السيد إنها لم تخطئ، ولكن تكلم عن شيء آخر، فهو ديّان الكل... ولم يقل إن الناموس لا يعاقبها... ولكن وماذا عنكم أنتم؟!... مثلما يشكو موظف من زميله الفاسد فيعاتبه المدير بأنه فاسد أيضًا وأحرى به أن يتوب، أو خادم يشكو من آخرين وهو واقع في نفس الخطأ.
+ + +
ولَمّا استَمَرّوا يَسألونَهُ، انتَصَبَ وقالَ لهُمْ: «مَنْ كانَ مِنكُمْ بلا خَطيَّةٍ فليَرمِها أوَّلًا بحَجَرٍ!» (يوحنا 8: 7)، لقد زادوا في إلحاحهم فقرّر أن يواجههم، لم يلغِ ناموس موسى (فهوالذي جاء ليكمل الناموس ليصيّره ناموس الكمال، بل قال السيد ما معناه: «من ينطق بالحكم وينفّذ الحكم يلزمه أن يكون لم يأتِ الخطية، وإلّا فإنه مستوجب الموت...»، إذًا معني الكلمة «مَنْ كانَ مِنكُمْ بلا خَطيَّةٍ فليَرمِها أوَّلًا بحَجَرٍ!»: أن الدينونة من حق الله الذي بلا خطية وحده! كما يعني ذلك أيضًا تنفيذ ناموس موسى... فهو يحترمه، أي أنه لا مانع من التطبيق، ولكن ليقم بذلك الذي بلا خطية!!
وصار القول مثلًا: يقال في كل مرة يُستَهدَف فيها مسكين من أدعياء الحق وحماة القانون: «مَنْ كانَ مِنكُمْ بلا خَطيَّةٍ فليَرمِها أوَّلًا بحَجَرٍ!»، وصار استخدامه شائعًا بين جميع الناس وليس المسيحيين فقط.
وأمّا هم فلما سمعوا وكانت ضمائرهم تبكتهم خرجوا واحدًا فواحدًا مبتدئين من الشيوخ إلى الآخرين، فالشيوخ هم الذين فهموا السيد المسيح جيدًا وكان الكلام موجَّهًا إليهم بشكل خاص... ولولا أن السيد المسيح فاحص القلوب والكلى ويعرف خطاياهم وأفكارهم، لولا أنهم خجلوا وانصرفوا، وربما خشوا أن يفضح خطاياهم أمام الآخرين ولا سيما المرأة، أمّا الشباب الذين تشجّعوا بالشيوخ فقد لحقوا بهم يجرّون أذيال الخجل. وبقي يسوع وحده والمرأة في الوسط.
يقول القديس أنبا بيمن: "أيها العفيف لا تدن الزاني، لأن الذي قال: لا تزنِ، قال أيضًا: لا تدن، فإن أنت لم تزنِ ولكن أدنتَ فقد صرتَ مخالفًا للناموس". وهي مقتبسة من رسالة القديس يعقوب: «لأنَّ الّذي قالَ: لا تزنِ، قالَ أيضًا: لا تقتُلْ. فإنْ لَمْ تزنِ ولكن قَتَلتَ، فقد صِرتَ مُتَعَدّيًا النّاموسَ» (يعقوب 2: 11).
+ + +
أسقط في يد الله لأن مراحمه كثيرة:
ثم يسألها السيد المسيح: «أين هُم أولئكَ المُشتَكونَ علَيكِ؟» (يوحنا 8: 10).
يقول القديس أغسطينوس في ذلك: "بقي اثنان: المرأة التعسة، والرحمة المتجسدة"، وهكذا خسر الشيوخ القضية، وكانوا قد توقّعوا فريستين: المسيح والمرأة الخاطئة، فإذا هم الفريسة، وأصبح السيد المسيح هو وحده القادر على الحكم على الخطاة، فهو الذي بلا خطية وحده، والقادر على مغفرة الخطايا... لذلك يقول داود النبي: «أسقُطْ في يَدِ الرَّبِّ لأنَّ مَراحِمَهُ كثيرَةٌ، ولا أسقُطُ في يَدِ إنسانٍ» (1أخبار 21: 13).
أراد السيد المسيح أن يقول لها إن الفرصة الآن مهيَّأة لمحاسبة النفس ومواجهتها، قال القديس أنبا مقار: "على نفسك احكم يا أخي قبل أن يحكموا عليك لأن الحكم لله وحده"، ويوجّه إليها السيد هذا السؤال:
أَمَا دَانَكِ أَحَدٌ؟:
أي أن الأمر الآن يخصّك بالدرجة الأولى، بغضّ النظر عمّا إذا كان هناك من يدينكِ أم لا. فقد لا يديننا الناس، وقد لا نُعاقَب على خطايانا مباشرة، ولكن علينا ألّا نغفر لأنفسنا، وإلّا فهناك دينونة أعظم تنتظرنا هناك...
أيتها المرأة: لم يدنك أحد ولكن ليتك تتبصّرين في الأمر، مثل لص أمسكه الناس محاولين قتله أو تسليمه للشرطة، وجاء من دافع عنه وخلّصه من أيديهم، ثم أوصاه من ثَمّ بأن يكفّ عن السرقة ويقدم توبة، لا شكّ أن اللص سيتأثّر كثيرًا، لا سيما لأجل خاطر الذي أنقذه...
والحقيقة أن السيد المسيح دفع الثمن ليس بدلًا من هذه الزانية فقط بل وكل الزناة والخطاة، وصُلِب عن خطايا العالم كله... ليخلص كل العالم... لم يقل لهم: لا تعاقبوها، ولكن لستم مفوَّضين لمعاقبتها، أمّا الناموس فإني أنتصر له وأكمّله... وسوف أموت أنا عن الكل....
ولا أنا أدينك:
لأن المسيح لم يأتِ ليدين العالم بل ليخلص العالم، مع أنه صاحب الحق في ذلك!! كما قصد السيد المسيح أنه لن يُصدِر عليها حكمًا نهائيًا الآن، وبالتالي فأمامها فرصة لتتخلّى عن خطاياها... إنه لن يدين هنا، ولكنه سيدين هناك... إذًا اذهبي وكوني أهلًا للثقة التي أعطيتُك إياها...
اذهبي ولا تخطئي أيضًا:
إنه رجاء، يترجّاها ألّا تخطئ أيضًا!! يدعوها إلى التوبة، يقولها المسيح بنفسه، إذًا فهي دعوة مُحمَّلة بقوة إلهية... إن المعترضين – اخذوا النصف الأول «ولا أنا أدينك»، بينما تجاهلوا النصف الثاني «ولا تخطئي أيضًا».
+ + +
في هذه القضية المتشعّبة: أدان المسيح الخطية وخلّص الخاطئ... لقد برّر المرأة، وأدان المشتكين، وأعطى الناموس قدره، وأرسى قواعد ناموس الكمال والنعمة. وهكذا ترك الرب...
السؤال الهامّ الآن: هل نسعى لخلاص نفس شخص أم إهلاكه؟