الأقباط مفطورون على حب السهر والتسبيح والنسك وسير القديسين، بل يميلون لجهادات أكثر مما تقرّره الكنيسة، وعندما تحلّ ليالي كيهك تمتلئ الكنائس بالشعب المحب للتسبيح من كافة الأعمار، يقفون لساعات طويلة، ترتفع حناجرهم بالتسبيح والتهليل، ويشملهم الفرح القلبي.
في هذه الليالي تحديدًا تجترّ الكنيسة فيما فعلته سقطة آدم ونتائج الخطية التي تجسّدت خلال العهد القديم، من تمرُّد الطبيعة، وتجرُّؤ الشياطين على الإنسان، ودخول الأمراض، وتسلُّط الموت، والحجاب الكثيف الذي كوّنه الإنسان فيما بينه وبين والله، حروب ومنازعات وخيانة وتفتُّق الذهن عن الشرور، وعبادات الأوثان. وتشير قراءات قداسات كيهك إلى هذه الآلام، وكيف أن الرب أعاد للإنسان كرامته بتجسده، فشفى المرضى وأخرج الشياطين وأقام الموتى وأظهر سلطانه على الطبيعة.
وتشرح تسابيح وقراءات كيهك ماضي البشرية المعتِم، وكيف كان يبرق الأمل بين وقت وآخر من خلال نبوة أو إشارة أو رمز أو شخصية تظهر، كان من شأن ذلك أن يشيع الأمل في النفوس التي أتعبها الإحباط من طول الانتظار، وجيلٌ يسلم جيلاً هذا الوعد: «فِي الإِيمَانِ مَاتَ هؤُلاَءِ أَجْمَعُونَ، وَهُمْ لَمْ يَنَالُوا الْمَوَاعِيدَ، بَلْ مِنْ بَعِيدٍ نَظَرُوهَا وَصَدَّقُوهَا وَحَيُّوهَا» (عبرانيين 11: 13). وتبدأ الإشارات من وعد الله بأن نسل المرأة سوف يسحق رأس الحية (تكوين 3: 15)، لتستمر حتى يعلن ميخا النبي مكان ولادة المخلص: «وَأَنْتِ يَا بَيْتَ لَحْمٍ، أَرْضَ يَهُوذَا... مِنْكِ يَخْرُجُ مُدَبِّرٌ يَرْعَى شَعْبِي إِسْرَائِيلَ» (متى 2: 6.(
وفي إسهاب طويل "محبَّب إلى النفوس"، تصّوِّر سهرات كيهك ليل البشرية الطويل المظلم والبارد، ننتظر بلهفة قدوم المخلص الذي سيشرق على الجالسين في الظلمة وظلال الموت، نسبّح وكأننا نثبّت أعيننا على الباب متوقعين إشراقة النور، نسبّح ونلحّ في الاعتذار عما بدر منّا، ونطلب على استحياء أن يأتي ولا يبطئ، وكفا ما عانيناه متمسّكين بوعوده. نمدح السيدة العذراء، ونصفها بمئات الصفات، ونطوّبها لأنه منها يأتي المخلص؛ فهي منّا، وبَشَرٌ مثلنا، فمن جهة نقدِّم التسبيح معها للمسيح، ومن جهة أخرى نرى المسيح قادمًا عبر أحشائها البتول، هي أم المخلّص وهي أيضا تبتهج روحها بالله مخلصها، نردّد جميع ما جاء عنها في العهد القديم وما يختص بالتجسد من نبوات ورموز وإشارات وأحداث، فكرامتها تأتي من كون الله قد اختارها ليتجسد منها.
وفي كل ليلة تسبيح نعاصر انقشاع الظلمة وانبلاج النور ليحيي فينا ذلك الأمل بأنه قادم بدون شك. ولذلك يرتبط عيد الميلاد بالأنوار: فالنور العظيم يشرق للرعاة وملاكًا يخبرهم بالخبر الأعظم، ونجم يشرق في المشرق ويدلّ المجوس على مكان المذود، هوذا شمس البرّ يشرق ويبدّد الظلام الدامس ويحمل لنا الشفاء من خطايانا: «وَلَكُمْ أَيُّهَا الْمُتَّقُونَ اسْمِي تُشْرِقُ شَمْسُ الْبِرِّ وَالشِّفَاءُ فِي أَجْنِحَتِهَا» (ملاخي 4: 2)، وهكذا تكتسي الأرض كلها بالنور في عيد الميلاد، وتنشر بشدّة أشجار عيد الميلاد بأنوارها المبهجة، وتظهر شخصية القديس نيقولاوس "بابا نويل" لتوزّع ملايين الهدايا ابتهاجًا بمجيء المخلص.
...بِأَحْشَاءِ رَحْمَةِ إِلهِنَا الَّتِي بِهَا افْتَقَدَنَا الْمُشْرَقُ مِنَ الْعَلاَءِ (لوقا 1 : 78).