الذي يُريد أن يسير في الطريق الروحي، كيف يبدأ؟ حقاً أن الحياة الروحية بمعناها السليم، هى أن الإنسان يحب اللَّه، ويحب الخير، ويحب الملكوت السماوي، ويحب جميع الناس، ويسلُك في طريق البِرِّ ونقاء القلب بكل رضا واشتياق، ويشعر أن عِشرته مع اللَّه هى ملء السعادة. وشهوة القلب. ولكن هل كل الناس يبدأون بهذا المستوى؟ كلا بلا شكّ.
?? هل محبة الإنسان للَّه قد تكون نهاية الطريق، وقمة العلاقة مع اللَّه. وليست هى نقطة البدء، بل عملياً يبدأ الشخص بمخافة اللَّه، كما قال الكتاب: " بدء الحكمة مخافة اللَّه ". فيستيقظ إلى نفسه. وتبدأ مخافة اللَّه تدخل إلى قلبه. فيخاف من دينونة خطاياه، ومن غضب اللَّه، ويخاف أن يأتيه الموت وهو غيرمستعد. وهذا كله يدعوه إلى أن يُغيِّر طريقه. ولكن كيف يُغيِّر طريقه؟ يُغيِّره بالتغصُّب لأن محبة اللَّه لا تكون قد ملكت على قلبه منذ البداية. وهكذا يكون التَّغصُّب هو نقطة البداية العملية في الحياة الروحية.
?? إنسان دخل جديداً في الطريق الروحي. لم يتدرّج بعد على الصلاة. ولم يتعوَّد الاستمرار فيها طويلاً. وليست له المشاعر الروحية التي تساعده على صلاة الحب والعاطفة والخشوع والتأمُّل. ولكنه يغصب نفسه على الصلاة. وإن حُورِب بإنهائها، يغصب نفسه على الاستمرار فيها. ففي الليل مثلاً يشعر أنه مُثقَّل بالنوم، وأنه مُتعب جسدياً وليست لديه قوة على الوقوف للصلاة. وليست له رغبة في ذلك. ولكنه يغصب نفسه على الصلاة والركوع والسجود، ويغصب نفسه على تركيز حواسه في الصلاة، ومنع ذاته من الشرود والسرحان.
قال أحد الآباء:
إنك لو انتظرت إلى أن تصل إلى الصلاة الطاهرة الخاشعة النَّقية، ثم بعد ذلك تُصلِّي، فإلى الأبد لا تُصلِّي. كذلك أن الصلاة في كمالها ليست هى نقطة البدء، بل هى قمة العمل الروحي في الصلاة. إنما أنت، عليك أن تغصب نفسك على الاستمرار في الصلاة، حتى لو كنت مُثقَّلاً بالنوم. واللَّه ينظر إلى تعبك وجهادك وصبرك وإصرارك. ويشرق عليك بنعمته ويجذبك إلى كمال الصلاة.
?? نفس الوضع نقوله بالنسبة إلى كل فضيلة من الفضائل: وقد لا تبدأ ممارسة الصوم بمحبة الصوم، ولكن تغصب نفسك على ذلك. وقد لا يكون لك اشتياق إلى قراءة كتاب اللَّه والتأمُّل في كلماته. ولكنك تغصب نفسك على ذلك. وبالمثل تغصب نفسك على التوبة، وعلى التسامح، وعلى دفع نصيب اللَّه من مالك. وتغصب نفسك على ضبط الفكر، وضبط الحواس ... الخ.
?? ولكن لعلّ سائلاً يسأل: هل اللَّه يقبل الفضيلة التي بتغصُّب وهى خالية من الحُب؟! أولاً أقول لك إنها ليست خالية من الحُب. ولولا الحُب ما كنت تبدأ بها. ولكنه حُب مبتدئ، يقاومه عادات النفس القديمة، وتقاومه ارتباطات بالمادة والجسد. كما تقاومه محاربات الشياطين ومعطلات عديدة. واللَّه يقبل هذا التغصُّب باعتباره لوناً من الجهاد الروحي ومحاولة قهر النفس.