أم الشهداء جميلة... أم الشرفاء نبيلة... عبرت بحر الآلامات...»
زرتُ "قرية العور" في سمالوط، والتي ستُدعى فيما بعد "قرية الشهداء"، فالذين اُستُشهِدوا ليسوا شهداء الكنيسة فقط وإنما شهداء مصر أيضًا، إذ كانوا ضمن المصريين المتواجدين في ليبيا الشقيقة.
وقرية العور هي قرية صغيرة آمنة، عامرة بالإيمان، تحمل سمات الريف المصري، كانت القرية في ذلك اليوم قد خرجت عن بكرة أبيها مسلمين ومسيحيين يبكون الشهداء، لم يكن عدد المسلمين بأقل من المسيحيين، جاءوا يتلقّون التعزية وليس ليقدموها، يبكون مصر والمصريين، يبكون فلذات أكبادهم.
أحب أن أحيّي الأم التي سلّمت ابنها الإيمان المستقيم وملأت قلبه بمحبة المسيح، وهو وإن كان قد غادر البلاد بحثًا عن سُبُل العيش، إلى بلد صارت منكوبة بالعصابات والإرهاب وجماعات القتل الوحشي، فهو في النهاية لم يقبل المزايدة أو المساومة على إيمانه ومسيحيته وحياته الأبدية.
ذهب ابنها ليوفّر لهم سُبُل عيش أفضل، وربما أَمِل في العودة ببعض الدينارات، غير أنه عاد ليحمل اللؤلؤة الكثيرة الثمن، وليعلن أنه فاز بالكنز الذي في هذا العالم، عاد ليحمل لها ولقريتها والكنيسة والتاريخ، أعظم إنجاز يمكن أن يقدمه إنسان في حياته، نال إكليلًا لا يُقدَّر بمالٍ ولا يفنى ولا يتدنس ولا يضمحل، وها قد بدأت الأمهات يدركن أنه مهما كبر ابنها، أو علا شأنه، أو اُشتُهِر واغتنى، وأنجب الأبناء، وصال وجال، فإنه لم يكن ليحقّق ما حققه باستشهاده. لقد تخلّد اسمه هنا، ولسوف ينعم بالخلود مع الله.
تحية لكِ أيتها الأم القبطية التي ربّت أولادها –مثل كل الأمهات القبطيات- على حب الاستشهاد، وألهبت فكرهم وخيالهم بقصص الشهداء الأبطال منذ نعومة أظافرهم. تحية إلى الأم التي لم تهتم بتربية الجسد فقط ليصبح أولادها سمانًا، فلنا في الفتية الثلاثة مثالٌ في النسك، أو بعواطفهم فقط ليكونوا غير واقعيين، ولا بعقولهم فقط ليكونوا مجرد عقلانيين، وإنما ربّتهم أقوياء البنية، متماسكين، متعقّلين، ولكنها بالأحرى ربّتهم مسيحيًا لتعدّهم للملكوت، إنها أم قبطية ككل الأمهات القبطيات، وهو شهيد بطل مثل أجداده. عن مثل هذا الإيمان تكلم القديس بولس: «إذ أتَذَكَّرُ الإيمانَ العَديمَ الرّياءِ الّذي فيكَ، الّذي سكَنَ أوَّلًا في جَدَّتِكَ لوئيسَ وأُمِّكَ أفنيكي، ولكني موقِنٌ أنَّهُ فيكَ أيضًا» (تيموثاوس الثانية1: 5).
تحية إلى الأب الكاهن في هذه القرية الصغيرة، والذي أثمرت تعاليمه هذه الثمار الحلوة. تحية لخدام وخادمات مدارس الأحد الذين تلمذوا هؤلاء الشهداء. تحية إلى أسقف هذه الإيبارشية والذي زيّن الله إيبارشيته بهذه اللآلئ الحسنة، إنهم أعظم إنجازات العمل الرعوي.
وكلمة إلى كل أب وكل أم وكل خادم وخادمة...
هذه ثمار أمانتكم وتعبكم في التربية وفي الخدمة، وإن كنتم لا ترون الثمار واضحة أو سريعة أو فورية، وإنما تستودعون الإيمان النقي وحب الله في قلوب أولادكم، وهذا هو الثمر. أما يستحق أولادنا مزيدًا من التعب والسهر والافتقاد؟ لقد تسلمناهم من المعمودية على صورة المسيح، وحافظنا على هذه الصورة حتى قدمناهم أولادًا للمسيح، ونماذج مسيحية فرح بها الله والكنيسة.
لا تبكِ أيتها الأم الغالية، بل افرحي واشعري بالفخر واطمئني إلى مستقبل ابنكِ، أمّا الأم التي يتوجب عليها أن تبكي فهي أم السفاح الذي نفّذ الجريمة، بل ليتكِ تصلي من أجل تلك الأمهات ومن أجل أولادهن. إن الأمر أشبه ما يكون بأم تفوّق ابنها في دراسته، وهي الآن تواسي أمهات الذين رسبوا أقصد "سقطوا".