نرجع إلى أنفسنا مدركين الشرور التي نرتكبها؛ ونبكتها على خطاياها؛ ونقف على حقيقة ضعفنا وذلنا ومسكنتنا؛ التي أسقطتنا من رتبتنا إلى أحطّ الدرجات؛ وعندئذٍ نتطلّع إلى غنىَ ومجد وخلاص أبينا السماوي؛ واثقين أنه يهبنا البركات ويقبلنا لا كعبيد وأجراء؛ بل كأبناء وورثة؛ حتى ولو رجعنا في الهزيع الأخير مع أصحاب الساعة الحادية عشرة... يدفع لنا ذات الأجر؛ ويهب لنا ذات الحياة؛ ولا يشاء هلاكنا جوعًا وعوزًا ومهانة... لكنه يُعيدنا من المنافي ويُدخلنا إلى منازله الكثيرة؛ ما دُمنا قد قمنا لنرجع إليه (أقوم وأرجع إلى أبي). فمشاركتنا وتجاوبنا في المسيرة يهبنا القيام من سقطتنا ويُدخلنا إلى سر معرفته من قوة إلى قوة ومن مجد وراء مجد؛ ومن نعمة فوق نعمة؛ لأن الغمر ينادي غمرًا؛ معترفين بخطايانا "يا أبي أخطأتُ إلى السماء وقدامك ولستُ مستحقًا بعد أن أُدعىَ لك ابنًا؛ اجعلني كأحد أجرائك" (لو ١٩:١٨)؛ لأن كل من يتوب ويعترف هكذا يُحسب مستحقًا لأكثر مما يطلب.. ويقبله الآب لا كأجير ولا كغريب؛ بل كإبن يُعيده إلى الحياة كما من الموت؛ ويحسبه أهلاً للوليمة وللثوب السابق النفيس... بدلاً من الفساد يلبس ثوب عدم الفساد؛ وبدل الجوع يُطعمه العجل المسمَّن؛ وبدل السفر البعيد يُسكنه مواضع الراحة ويترقب عودته ويكسي عُريه؛ ويزين قُبحه بخاتم المجد.
إن احتياجنا للتوبة والخلاص تقابلها محبة الآب السماوي؛ الذي غلبته محبته وتحننه؛ لأنها طبيعته... أبوته لا تقهرنا ولا تُلزمنا بالرجوع؛ لكنها تقبلنا متى أردنا ومتى رجعنا... يرانا ويركض نحونا مسرعًا... يقبلنا ما دمنا نُقبل إليه تائبين ومعترفين بزلاتنا. لا يرفضنا ولا يوبخنا ولا يحسبنا كأجراء؛ بل يكرمنا كأبناء ويعانقنا ويُقيمنا في بيته ويفك نير خطايانا ويمنحنا عطاياه الأبوية: الحُلة الأولى؛ وخاتم اليد؛ وحذاء الأرجل؛ والعجل المسمَّن في وليمة دسمة مُحاطة بالملائكة وفرح السمائيين. فبالرغم من أننا عندما ضللنا لم يعُد لنا أي أحقية شرعية ولا أي نصيب عند أبينا بعد أن تركناه وانفصلنا عنه بجفاء وجفاف؛ وبعد أن جرّدنا أنفسنا من كل مشروعية؛ وبعد أن بذرنا كل ما يخصنا؛ واحتقرنا بنوّتنا لله؛ وشوهنا صورة واسم وكرامة البنوة؛ إلا أنه يقبلنا ولا يتركنا نهلك جوعًا؛ حالما نأتي إليه وندخل إلى وليمة مصالحته في سفينة النجاة.
هناك نخلع الرداء المُميت وفساد الطين لنلبس الحُلة التي أمر الآب أن نلبسها؛ تلك الحلة الروحية الأصلية؛ التي هي لُباس العُرس المصنوعة من نار الروح القدس والمنسوجة من الماء التطهيرية؛ فنتزين ونُولد من جديد؛ من رحم الكنيسة؛ وكاننا نأخذ حياة من أم بيولوچية؛ بعد أن تركنا ظلمة الكآبة المثلثة التي لليأس والجهل العقيم... ونقتني خاتم عُربون الشركة والعهد الروحي والتبنّي... ونجعل الحذاء في أرجلنا كقوة؛ حتى لا يجدنا الشرير حُفاة فيضربنا بسهامه؛ بل ندوس عليه تحت الأقدام؛ حاذين أرجلنا باستعداد إنجيل السلام؛ ثم نتقدم إلى الوليمة المسمَّنة لنأكل ونفرح بدواء وقُوت الخلود؛ فتمتلئ أفواهنا فرحًا من قبل تناولنا من الأسرار غير المائتة؛ بانضمامنا إلى الجسد الإلهي وشركة الملائكة في تسبيح مُفرح مقترن بالحياة المقدسة التي فيها تسبق حياتنا أفواهنا؛ بتكميلنا للشركة مع الثالوث القدوس؛ الذي يعيد تشكيلنا لنسترجع جمال بنوتنا الأصلي؛ وشبهنا الإلهي؛ ويختم فينا حضوره الفائق (صورة السمائي)؛ وبكل ما أعدده وأنعم به علينا نحن الأطفال الصغار الذين لكنيسته المقدسة.
لقد نقش أبونا السماوي أسماءنا على كف يده؛ وجعل لكل واحد منا مكانًا محفوظًا عنده؛ يسعى وراءنا كراعٍ يرعىَ قطيعه؛ وبذراعه يجمع حملانه؛ وفي حضنه يحملنا ويقود المرضعات... يفتشنا عناية ويودعنا الحظيرة؛ يحملنا على كتفيه بصليبه؛ حتى يسهل علينا وعورة الطريق... صانعًا لنا وليمة فاخرة مقدمًا فيها نفسه وعطاياه؛ لنشبع ونفرح؛ فرجوعنا وتوبتنا هو عيد؛ وهو فرحة للسماء والأرض؛ ولولا صليبك يا ربنا؛ ما صار لنا عودة وقبول وحياة من بعد موت (كان ميتًا فعاش)... تركض وراءنا طافرًا على الجبال قافزًا على التلال... تتطلع من وراء الكوى وقد امتلأ رأسك من الطل ومن ندى الليل؛ وعند رجوعنا إليك تترك لنا ما علينا؛ بعد أن بددنا كل شيء؛ وتقبلنا بعد أن أدرنا لك ظهورنا؛ وتعيدنا إلى رتبتنا ومركزنا الأول بمقتضى رحمتك يا محب البشر الصالح.