إن المعمودية هي سر استنارة الكنيسة، والاستنارة هي العطية التي ُتمنح لنا من خلالها، ونحصل على الاستنارة من الروح القدس المرتبط بالمعمودية (سر التثبيت) وبالتالي فالمعمد الذي استنار بالروح القدس يصبح من ثم قادراعلى التمييز بين الخير والشر أو الجيد والرديء، وكذلك الأمور المتخالفة، وفي هذا الصدد يقول القديس باسيليوس الكبير عن الروح القدس أنه مصدر القداسة والنور العقلي والذي يهب كل الخليقة الاستنارة لفهم كل شيء. وفي صلاة باكر يوميا تذكرنا الكنيسة مع اشراقة النور "موعد هذه الصلاة" بالاستنارة التي حصلنا عليها من المعمودية "رب واحد ايمان واحد معمودية واحدة" لكي نسلك في النور خلال اليوم.
وبالمعمودية وبصيرورتنا أبناء للمسيح "اذ تمنحنا المعمودية التبني" نسير في النور لأن المسيح هو النور ومن يتبعه لا يسلك في الظلام "الله هو النور وساكن في النور وتسبحة ملائكة النور" (ذكصولوجية باكر) وعندما قال القديس بولس "انتم الذين اعتمدتم للمسيح قد لبستم المسيح" (غل 3: 27) فانهم بذلك يلبسون النور كحلة لأن الله هو النور. ويقول القديس بولس "لان الله الذي قال ان يشرق نور من ظلمة هو الذي اشرق في قلوبنا لانارة معرفة مجد الله في وجه يسوع المسيح" (2كو 4: 6)
كذلك صرح السيد المسيح إن كان احد لا يولد من الماء والروح فلن يقدر أن يعاين ملكوت الله، ويرى بعض الشراح أن الأطفال الذين لم بعمدوا سيوجدون في الملكوت ولكنهم لن يقدروا أن يعاينوا مجد الله. وهكذا فالعينين العميتين أبصرتا بالمعمودية لأنه في المعمودية ينال الإنسان الطبيعة الجديدة، فكل إنسان يولد أعمى ولا يقدر أن يرى ملكوت الله، أما بعد عماده تنفتح عيناه لأن المعمودية فيها استنارة. ولعلنا نتذكر هنا كيف أن القديس بولس عندما تأهب ليعتمد "فللوقت وقع من عينيه شيء كانه قشور فابصر في الحال وقام واعتمد" (اع 9 : 18)
فالمعمودية هي الاستنارة لمعاينة ملكوت الله. ولا يستطيع أحد أن يعاين ملكوت السماوات إن لم يولد من فوق "الحق الحق أقول لك إن كان أحد لا يولد من فوق، لا يقدر أن يرى ملكوت الله" (يو3: 3)، وعندما سأله نيقوديموس كيف يمكن للإنسان أن يولد وهو شيخ اجابه: "إن كان أحد لا يولد من الماء والروح لا يقدر أن يدخل ملكوت الله" (يو3: 5).
ومن هنا نفهم كلمات القديس بولس الرسول:ن "الذين استنيروا مرة (أي الذين نالوا سرّ العماد) وسقطوا لا يمكن تجديدهم مرة أخرى، أي لا تعاد معموديتهم" (عب 6: 4-6)، لأن السيد المسيح قد صلب مرة واحدة. "فانه ان اخطانا باختيارنا بعدما اخذنا معرفة الحق لا تبقى بعد ذبيحة عن الخطايا بل قبول دينونة مخيف وغيرة نار عتيدة أن تأكل المضادين" (عب 10: 26، 27).
يقول القديس يوحنا ذهبي الفم عن المعمدين الجدد انهم يضيئون اكثر من النجوم واكثر ضياءا حيث تنير في النهار والليل، ويضيئون وجوه من يتطلعون إليهم، وقد استخدم الرب يسوع الشمس ليشير الى ضياء الابرار.
ويرى الآباء أن المعمودية في هذه الآية -والتي هي الاستنارة- هي المدخل لكل النعم "لان الذين استنيروا مرة وذاقوا الموهبة السماوية وصاروا شركاء الروح القدس وذاقوا كلمة الله الصالحة وقوات الدهر الاتي وسقطوا لا يمكن تجديدهم ايضا للتوبة اذ هم يصلبون لانفسهم ابن الله ثانية ويشهرونه" (عب 6: 4-6) ومرة اخرى يقول: "ولكن تذكروا الايام السالفة التي فيها بعدما انرتم صبرتم على مجاهدة الام كثيرة" (عب 10 : 32) ويقصد بالطبع المعمودية، والتي جعلتهم في معية المسيح وكل من يتبع المسيح لابد وأن يحمل الصليب، ويصبر على التجارب.
انه سر الاستنارة وادراك امور الله، كما أشار القديس بولس قائلاً: "مستنيرة عيون اذهانكم لتعلموا ما هو رجاء دعوته وما هو غنى مجد ميراثه في القديسين وما هي عظمة قدرته الفائقة نحونا نحن المؤمنين حسب عمل شدة قوته" (أف 18، 19).
ويقول القديس غريغوريوس النزينزي في عظته الأربعين عن المعمودية:
"الان لنتكلم عن الميلاد الثاني، الذي هو لازم وضروري لنا، والذي يعطى اسمه "الاستنارة" لعيد الأنوار الذي هو عيد الغطاس، فالاستنارة هي مجد النفس وتحول الحياة، وهي معين ضعفنا وانكار اللحم واتباع الروح، وشركة الكلمة وتجدد الخليقة، وسحق الخطية وشركة النور، وانحلال الظلمة هو الانطلاق نحو الله، وهي الموت مع المسيح، وكمال العقل وقوة الايمان ومفتاح الملكوت، وتغيير الحياة والغاء العبودية، وفكاك السلاسل واعادة صياغة الانسان، .. الاستنارة هي اعظم وامجد عطية لله، وكما نقول قدس الأقداس ونشيد الأناشيد لنعبر عن أعظم قدس واعظم نشيد، هكذا الاستنارة باعتبارها أكثر قداسة من أية إنارة".