ولاشك أنه واجه حروبًا عنيفة في بداية حياته، فكيف يمكنه أن يحبس ذاته في قلاية ضيقة رطبة وهو الذي تعود ألا يصطدم بصره في الصحراء بأي شيء قريب. وكيف كان يطيق الجلوس فيها لساعات هادئًا متأمّلًا صامتًا، مثلما عاش يوحنا المعمدان -وهو رجل الجبال- في زنزانة ضيقة أسفل الأرض في قلعة ماكيروس بالجليل..
مما يجدر ذكره هنا أن الراهب ما لم تكن له عملية بناء داخلية مستمرة، فإنه لا يستطيع الاستمرار في الحياة الرهبانية، وبينما يفنى الخارج فإن الداخل يتجدد يومًا فيومًا.
كما واجه القديس موسى حربًا شعواء في سنواته الرهبانية الأولى من جهة الأفكار والتي كانت تمر في مخيلته مثل شريط يعرض له جرائمه وقبائحه وهو واقف يصلي، فيصاب بالانزعاج وصغر النفس، وعند ذلك كان يطرح نفسه على الأرض ويبكي قدام الله قائلًا قولته الشهيرة:
"يا رب أنت تعرف أني أريد أن أخلص ولكن الأفكار لا تتركني". وقليلًا قليلًا هدأت عنه هذه الحروب. مثل القديس مرقس الترمقي (من جبل برقة في ليبيا) والذي عاش تسعون عامًا لم يرَ فيها وجه إنسان، قال أنه حُورب في الثلاثين الأولى منها بحروب الشهوة دون هوادة إلى أن تحنن عليه الرب.
وفيما بعد وعندما سأله أخ: "ما الذي يُعين الراهب في شدائده التي يقابلها في حياته"؟ فأجابه: ”مكتوبٌ: "إلهنا ملجأنا وقوتنا، وُجِد في الشدائد قويًا جدًا" (مز46: 1)
قيل أن أخ سأل أنبا موسى قائلًا: ”ماذا يفعل الإنسان في التجربة التي تأتي عليه والفكر الذي من العدو“؟ فأجابه الشيخ: ”عليه أن يبكي أمام نعمة الله لكي يُعينه، وبسرعة سيجد راحةً إذا قدّم توسلاته بمعرفةٍ، لأنه مكتوب: "الرب معينٌ لي فلا أخاف، ماذا يصنع بي الإنسان"؟! (مز118: 6؛ عب13: 6).
ولأنه اتصف بالعجرفة والكبرياء في حياته السابقة، كان لزامًا على الآباء أن يدربوه قليلًا قليلًا على الاحتمال وقبول الإهانة. لاسيما وأن الشياطين يمكن أن تتلاهى به متى كان مهزومًا من كبريائه. وقد اتبعوا معه بعض التداريب ليكتسب فضيلة الاحتمال، ففي البداية حدث أن انعقد مجمع للآباء في الإسقيط لمناقشة بعض الأمور (ربما المشكلة الأوريجانية) فلما دخل الأنبا موسى مع الداخلين وجلس بينهم حتى بادره أحدهم بالقول: [لماذا يأتي هذا النوبي هكذا ويجلس في وسطنا؟، ألعلّنا في احتياج إلى لصوص؟] فلما سمع ذلك الكلام سكت، وبعدما انتهى المجمع سأله بعضهم إن كان قد غضب أم لا! فقال "الحق أنني اضطربت ولكنى لم أتكلم شيئًا". ولمّا صار مرشدًا للرهبان كان يقول عن المديح والمذمة:
+ تمجيد الناس يولد للإنسان البذخ وتعظم الفكر.
+ حب الإطراء من شأنه أن يطرد المعرفة.
+ على مثال الصدأ الذي يأكل الحديد كذلك يكون مديح الناس الذي يفسد القلب إذا مال إليه. وكما يلتف اللبلوب (نبات اللبلاب) على الكرم فيفسد ثمره كذلك السبح الباطل يفسد نمو الراهب إذا كثر حوله.