ولما التزم موسى بالإرشاد الروحي بدأ يرسخ في الحياة النسكية، وقد عاونه في ذلك كثيرًا، كل من القديسين مكاريوس الكبير وإيسيذورس القس، وجدير بالملاحظة هنا أنه على أي شاب يبحث عن حياة رهبانية حقيقية أن يعطي الأولوية في اختيار المكان للمرشد الروحي والهدوء (أي يطمئن إلى وجود هذين العاملين في الموضع الذي سيترهب فيه).
هذا ويرد في مخطوط تفسير الباراديسوس (أي بستان الرهبان) ما يأتي:
سأل أخوة شيخًا: لماذا ُيقاتل المتوحدون أولًا بالأفكار من الشياطين ثم بالتخويف والضرب كما جرى لذلك الرجل الذي حبس نفسه في القبر الذي أخبره عنه يوحنا النبي (الأسيوطى) أن الشياطين ضربوه ضربًا شديدًا.
قال الشيخ: هذا هو طقس تدبير المتوحدين أنهم يتعبون أولًا في الأعمال الجسمانية ثم بحرب الأفكار ثم بالنظر الحسي والخوف والضرب، وحينئذ يصلون إلى نقاوة القلب وقوم آخرون يقاتلونهم الشياطين في أول خروجهم من العالم بالخوف والضرب وهذا يكون للذين تقلبوا في العالم في شرور كثيرة إذ يأتون من الابتداء بحرارة ونشاط في أعمال التوبة، ليعدموهم قوتهم الأولى، كما جرى لأنبا موسى الأسود وكما جرى لهذا الرجل الذي كان في القبور، لأنه لم يكن عرف شيئًا من حرب الأفكار إذ لم يكن ساكن أخوة في مجمع ولا عند إنسان يهديه، فمن أجل ذلك تجاسرت عليه الشياطين وضربوه، وتركه الله في أيديهم لسببين أحدهما لينادى بقوة الله والآخر لتعرف قوة التوبة وندامة النفس كم هي كريمة عند الله، إذ بصبره على عقوبة ثلاثة أيام ’رفع إلى الكمال وهزم شياطين كثيرة.
++++++++++++++++++++++++++++++++++++++++++++++++++++++++++++++++++++++++++
اتضاعه ومحبته للتعلم:
تنسكب النعمة والمواهب من أعلى إلى أسفل على المتضعين، وكل إنسان له اشتياق أن يخلص يكون بمثابة "نحلة" نشيطة تجوب الحدائق وتتنقل بين البساتين وتحط على مختلف أنواع الورود والزهور لتجمع من هنا ومن هناك ما تحتاجه، ومثلما يكون هناك شخص عبارة عن تجميع لأخطاء وضعفات الآخرين، فإنه هناك في المقابل من هو تجميع لفضائل الآخرين. لقد كان هذا هو منهج العديد من آباء البرية ومنهم القديس موسى الأسود.
ويرد في سيرة القديس زكريا بن قاريون، أن الأنبا موسى ذهب ليستقي ماءً من البئر فوجده هناك، فوجد زكريا يصليّ وروح الرب مستقرًا عليه مثل حمامة، فقال له يا أبتاه قل لي ماذا أصنع لأخلص؟ ولمّا سمع زكريا ذلك انطرح على وجهه إلى الأرض عند رجليه قائلًا: يا أبي لا تسألني أنا، فأجاب الأنبا موسى: صدقني يا ابني أني رأيت روح الله حالًا عليك ولذلك وجدت نفسي مسوقًا من نعمة الله لكي أسألك، فتناول زكريا قلنصوته ووضعها عند رجليه وداسها، ثم رفعها ووضعها على رأسه وقال: إن لم يصر الراهب هكذا منسحقًا فلن يخلص.
وعند نياحة زكريا قال له أنبا موسى أي الفضائل أعظم يا ابني؟ فأجاب: على ما أراه يا أبتاه ليس شيء أفضل من السكوت، فقال له حقًا يا ابني بالصواب حكمت.