«كُنْ أَمِينًا إِلَى الْمَوْتِ فَسَأُعْطِيكَ إِكْلِيلَ الْحَيَاةِ» (رؤيا 2: 10)
المبادئ هي الأُسُس التي تقوم عليها شخصية الإنسان أو الجماعة أو المؤسسة، ويمكن وصفها بالصخرة التي نبني فوقها، والمحور الذي تدور حوله الأفكار والسلوك، والمرجع الذي تُقاس عليه المواقف وردود الأفعال، وهو الخارطة، وهو الرؤيا، وهو الصدق مع النفس، وهو الهوية. ثم يأتي بعد ذلك الإخلاص للمبادئ. أمّا العوامل والمقوّمات التي يقوم عليها المبدأ فهي ما تربّى عليه الإنسان وتسلّمه في بكور حياته من الأسرة والكنيسة، وما عضد ذلك من قراءات وخبرات. والمبادئ الصحيحة هي ما يحثّ على الفضيلة ويشهد للحق، وبالتالي لا يدافع الإنسان عن مبدأ خاطئ فيضيع جهده ويخسر قضيته. كما أن الإصرار يجب أن يكون على أساس المبدأ وليس "مجرد العناد"، والفيصل بين الاثنين هو الوعي، ولذلك فإن المرونة في المبادئ تكون بدافع البذل وحب الآخر (مثلما فعل الأنبا موسى الأسود حين كسر قانون الصوم حين جاءه زائرون من مكان بعيد). ومع ذلك فقد يقوم صراع أحيانًا داخل الإنسان بين مبادئه من جهة، ورغباته الشريرة من جهة أخرى، لتفوز الخطية وينكسر المبدأ، كما قرأنا عن أناس لفظوا أنفاسهم الأخيرة وهم يدافعون حتى الموت عن مبادئ خاطئة!
صاحب المبدأ يدافع عنه مهما ناله بسبب ذلك من هوان أو خسارة، والبابا أثناسيوس والقديس ديوسقورس، وغيرهما من الآباء المدافعين عن الإيمان أو الطهارة، تسلّموا ذلك من الكتاب المقدس ومن الآباء، وكان بإمكانهم التفاوض مع المضطهدين والنجاة من المعاناة، ولكن ذلك سيكون ضد المبدأ. لقد سأل تلميذا يوحنا السيد المسيح قائليْن: «أنتَ هو الآتي أم نَنتَظِرُ آخَرَ؟» (متى 11: 3)، أي أنه إذا لم تكن أنت هو (المسيح) فنحن مستعدون لانتظار الآخر، ولكننا في جميع الأحوال لن نتخلّى عن مبادئنا، ولن نكسر الوصايا. جدير بالذكر أيضًا أن الإيمان بالمبدأ والقناعة به يعينان الإنسان على احتمال الآلام من أجله، بعكس شخص يمكن أن يتلوّن ويتنازل عن مبادئه تحت أي ضغط، ولذلك يمكن القول بأن التنازل السريع عن المبادئ قد يعني عدم الاقتناع بها.
والأروع أن يتمسّك الإنسان بمبادئة حتى وإن لم يره أحد، إنها مسألة صدق مع النفس وأمانة أمام الله الذي «يَدينُ [...] سرائرَ الناسِ» (رومية 2: 16). لقد هتف يوسف الصديق: «كيفَ أصنَعُ هذا الشَّرَّ العظيمَ وأُخطِئُ إلَى اللهِ؟» (تكوين 39: 9)، قال ذلك رغم إدراكه بأن امرأة سيدة قادرة على حمايته، غير أنها بلا شكٍّ ستحتقره فيما بينها وبين نفسها، كما أنه كان سيفقد مستقبله الأبدي.
روى مار إسحق هذه القصة عن المبادئ والتمسّك بها قائلاً:
"قرّر أحد الفلاسفة أن يكفّ عن الكلام والنقاشات مكتفيًا بالاستماع، وسمع به ملك البلاد فأرسل إليه ووبّخه بشدّة، وطلب إليه أن يتخلّى عن قراره، ولكن الفيلسوف لم يجبه، فثار الملك وأمر السيّاف بقتله، وبينما كانا ينصرفان أخذ الملك السياف إلى ناحية وقال له: ‘إن تمسّك بصمته حتى آخر لحظة لا تمسّه بل أعده إليّ، أمّا إن تخاذل وخاف من السيف فاقتله دون الرجوع إلينا’. ولمّا رفع الجلاّد سيفه وسأله لآخر مرّة أن يتكلّم، آثر الرجل الصمت، فأعاد السيف إلى غمده وعاد بالفيلسوف إلى الملك الذي أكرمه وأطلقه. ولمّا سأله تلاميذه لاحقًا عن السبب الذي جعله يغامر بحياته رغم بساطة الأمر، أجاب "كتابة" إنه لو تخاذل لصار عارًا عند تلاميذه وكلّ من سمع به لاحقًا، أمّا إن مات لأجل المبدأ فسيلقِّن الجميع درسًا هامًا في الأمانة".
روى مار إسحق هذه القصة في سياق حديثه عن الأمانة للمسيح والتمسُّك بالتدبير الروحي. ولكي نفهم كيف اختار الشهداء الموت على إنكار المسيح: لقد أدركوا أنهم سيموتون آجلاّ أو عاجلاً فليموتوا إذًا على المبادئ (يُقال أحيانًا: "مات فلان على كذا" أو "ماتت يده على كذا"، أي تمسّك به حتى النهاية). وقد عبّر القديس بوليكاربوس ببساطة عن ذلك بقوله: "لي هذه السنين كلها وأنا أتمتّع بحب المسيح ورعايته فكيف أخونه؟!" أعجبني كذلك سقراط الذي قَبِل الموت ولم يتراجع عن مبادئه، وكذلك جان دارك وجاليليو وغيرهم، لقد تسلّمنا من القديس بولس عن الله: «إِنْ كُنَّا غَيْرَ أُمَنَاءَ فَهُوَ يَبْقَى أَمِينًا، لَنْ يَقْدِرَ أَنْ يُنْكِرَ نَفْسَهُ» (تيموثاةس الثانية 2: 13). هذا يذكّرنا بالأمناء الذين لم يجثوا لبعل: «وَقَدْ أَبْقَيْتُ فِي إِسْرَائِيلَ سَبْعَةَ آلاَفٍ، كُلَّ الرُّكَبِ الَّتِي لَمْ تَجْثُ لِلْبَعْلِ وَكُلَّ فَمٍ لَمْ يُقَبِّلْهُ» (ملوك الأول 18: 19).
ونحن أيضًا يجب علينا أن نكون أمناء لله وللآخرين مهما تعرّضنا لمخاطر أو تهديد، مثلما يُظهِر الأسرى أحيانًا أمانة وثباتًا يفوقان الوصف أمام التعذيب النفسي والجسدي، وقد يصل الأمر إلى حدّ الموت، ولكنهم لا يخونون الأمانة. وبينما يحتقرهم الأعداء علنًا، فإنهم يحترمونهم فيما بينهم وبين أنفسهم. بل أن هناك سياسيين ومصلحين وأطباء لم يستطع أحد أن يشتريهم لا بالتهديد ولا بالمال ولا بالمناصب، رغم فقرهم وبساطة مراكزهم؛ وكذلك الثوّار والمدافعون عن حقوق الإنسان الذين رفضوا المزايدة أو المساومة على الأهداف، إنها مسالة مبدأ!!.
كذلك "السكرتير" يجب أن يتمتّع بهذه الفضيلة: الأمانة والثبات على المبدأ، فلا يفرِّط مطلقًا في أسرار العمل وصاحب العمل، وألاّ يتربّح كذلك من العمل بطرق غير مشروعة فيُحسب ذلك خيانة، وبعض المهنيين يصرّون على إتقان العمل مهما كان المقابل المادي أو عامل الوقت، إن الناس يتساءلون كثيرًا: أين ذهبت المبادئ؟ وأين الإخلاص لها؟ وهكذا يجب ألاّ تتغيّر المبادئ بسبب المال، أوالخوف، أوالمصالح.
والبعض ليست له مبادئ ولكنه مستعدّ للتمسُّك بالورقة الرابحة، فهو رجل كل العصور، وهو قادر بالتالي على التلوّن وإرضاء جميع الأذواق. وقد لا يكون الشخص مرائيًا، ولكنه مع ذلك بلا مبدأ، وقد يكون صاحب مبدأ ولكنه يجبن عن الدفاع عن مبدئه، والمجاهرة به، ويدخل في هذا الأمر التظاهر بالمبادئ جهرًا ومخالفتها سرًّا، فهناك أشخاص يتحدّثون عن أمور ومبادئ عالية جدًا ومبهرة حتى لتظن أنك تتعامل مع أمير أو قديس، ولكنه غير صادق، ومستعد لبيع القضية عند أول محك. هكذا قال الرب لملاك كنيسة سميرنا: «كُنْ أَمِينًا إِلَى الْمَوْتِ فَسَأُعْطِيكَ إِكْلِيلَ الْحَيَاةِ» (رؤيا 2: 10)، كما وصف أنتيباس بشهيده الأمين (رؤيا 2: 13).
ونعلم من سيرة القديس يعقوب المقطع أن العذاب الأليم المستمر لم يثنِه عن التمسُّك بمسيحه، كذلك القديس ديوسقورس كابد مشقّات كثيرة لأجل الإيمان، كما اختارت عفيفات كثيرات الموت عوضًا عن التفريط في بتوليتهن، ومارس الرهبان المجاهدون في الصحاري إماتات كثيرة، وصبروا على الحروب والجوع والعطش والغربة من أجل عِظم محبتهم في الملك المسيح. كذلك الفتية الثلاثة رفضوا السجود للصنم حتى لو أُلقُوا في النار، وكذلك دانيال النبي أيضًا أبى ان يتنجّس بأطعمة الملك حتى وإن أُلقِي في جب الأسود.
نحن أيضًا علينا الالتزام بمبادئنا: فنتمسّك بالصوم مهما كان الإغراء أو الضغوط، ونرفض الخمر الرقص في الحفلات والأعياد والمناسبات الخاصة، مهما اُتُهِمنا ومهما سخروا منّا. مثلما يتساءل البعض: هل من مانع من التردُّد على الكنائس الأخرى؟ أو تجربة كل جديد مثل ارتياد بعض الأماكن أو تعاطي بعض الممنوعات؟، ويأتي الردّ دائمًا بضرورة التمسُّك بالمبادئ، وأن تكون هناك هوية وانتماء وعدم التعريج بين الفرقتين.