يتساءل البعض: لماذا لم تتم أيّة معجزة هذه الأيام إمّا لتمنع ما حدث أو لترد عليه؟ أفما يوجد قديسون؟ ولماذا لم يسمع الله لصلاة الكثيرين ودموعهم؟ لماذا أنقذ الفتية الثلاثة من آتون النار ولماذا استشهد شاب في مثل سنّهم في هذه الأحداث؟ لماذا نجا دانيال من جب الأسود بينما لم ينجُ آخرون هذه الأيام؟ ولماذا مَنَعَ الله بعض الاعتداءات على بعض المواضع بينما سمح بها في أخرى؟
نحن نعلم أنه ما أبعد أحكام الله عن الفحص وطرقه عن الاستقصاء، ولكننا نطلب إليه مع المرتل داود: «اكشِفْ عن عَينَيَّ فأرَى عَجائبَ مِنْ شَريعَتِكَ» (مزمور 119: 18)، ونتوسّل إليه أن يعين ضعف إيماننا لئلا يتلاهى بنا العدو، ويشكّكنا في محبة الله لنا وعنايته بنا، بل ويحوّل انتباهنا عن الفائدة العظيمة التي أراد الله أن نجنيها مما حدث.
يظن البعض أن النجاة من الأخطار أو الموت، أو اجتراح الآيات، هي شرط حتمي لتعزيز قداسة الإنسان، وعلامة لقبوله لدى الله، ولكن الذين قاموا من الموت على يد السيد المسيح ومن بعده التلاميذ ومن بعدهم القديسون، ماتوا أيضًا بعد ذلك! والذين اجترحوا المعجزات وشَفوا مرضى عديدين مرضوا ورقدوا، وكثير من القديسين تغلّبوا على الوحوش والحيّات، ولكن قديسين آخرين قتلتهم الوحوش والأفاعي، سواء في ساحات الاستشهاد، أو في مغاراتهم في الغابات والجبال، ولم ينتقص هذا من قداستهم في شيء، كذلك فإن بعض أجساد الراقدين ما زالت سليمة لم تتحلّل، على الرغم من مرور مئات السنين على موتهم، في حين تحلّلت بقية الأجساد، مع أنها أجساد شهداء وقديسين أيضًا، ولم يفصل هذا الأمر بين قوم وآخرين من جهة القداسة.
لدينا من الكتاب المقدس مثال: وهو ما حدث للفتية الثلاثة ودانيال النبي من جهة (دانيال 3، 6، 14)، مقارنة بما حدث للمكابيين الشهداء السبعة الذين قُتِلوا مع أبيهم وأمهم (مكابيين الثاني 6، 7)، وهل تميّز هؤلاء عن أولئك؟ ويرى القديس أغسطينوس أن
"الفتية نجوا من النار بينما المكابيون فنيت أجسادهم النار، ولكن إرادتهم بقيت حيّة قوية، ربما أُنقِذ الفتية علانية، ولكنّ المكابيين تكلّلوا سرًا! إنه لشيء عظيم أن تُنقَذ من لهيب جهنم ذاك أفضل من النجاة من أتون الاضطهاد البشري".
"وهل الشهداء الذين تمزقت أجسادهم بأنياب الوحوش الضارية، لم يكونوا مقبولين عند الله؟ أو هل كان الفتية الثلاثة خُدّامًا لله بينما لم يكن المكابيون خُدّامًا لله؟ هل تعرّفت النار على هؤلاء الرجال الثلاثة كخُدّام لله فلم تحرقهم ولا آذت ملابسهم، بينما لم تتعرّف على المكابيين؟، كلاّ، بل يقول الكتاب «يَجْلِدُ كُلَّ ابْنٍ يَقْبَلُهُ» (عبرانيين 12: 6). وهل كانت المسامير ستنغرس في جسد الرب ما لم يسمح هو بذلك؟ أو يُعلَّق الصليب بغير إرادته؟ ولكنه أعطانا مثالاً للصبر للمخلصين له. إذًا، فالله أنقذ البعض علانية، بينما أنقذ البعض خفية، ولكنه خلّصهم جميعًا روحيًا، وهكذا لم يتخلَّ عن أحد قط".
وتعليقًا على الآية: «يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبُ لَهُ، مَعَهُ أَنَا فِي الضِّيقْ» (مزمور 91: 15) يقول القديس أغسطينوس أيضًا: "بينما تظن أن الله تركك لأنه لا ينقذك عندما تشاء، فإنه ينقذك؛ لقد أنقذ الفتية الثلاثة من النار، هل هو الذي عمل هذا، تخلّى عن المكابيين؟ حاشا لله! لقد خلّص كليهما: الأولون جسديًا حتى يخزى الكافرون، والآخرون روحيًا لكي يحذوا المؤمنون حذوهم: «أُنْقِذُهُ وَأُمَجِّدُهُ»."
وعلينا أن نتذكر أن الله الذي اختار له شعبًا بنفسه، ووعده بالاهتمام به والدفاع عنه، هو نفسه الذي سمح بأن يُذَّل هذا الشعب ويُهزَم من أعدائه الوثنيين ويُسبَى عشرات السنين، بل ويُحرَق هيكله الذي حل فيه بمجده، ولم يكن بالطبع ينصر عليهم الأعداء وإنما سمح لهم أن ينهزموا منهم ليجوزوا البوتقة ويخرجوا أكثر لمعانًا وبهاءً، «رَكَّبتَ أُناسًا علَى رؤوسِنا. دَخَلنا في النّارِ والماءِ، ثُمَّ أخرَجتَنا إلَى الخِصبِ» (مزمور 66: 12).