التوبة هي عنصر أساسي في الحياة مع الله. وهي لازمة للإنسان في كل وقت. وخاصة في فترة الصوم.
لأنه مادام الصوم فترة يقترب فيها الإنسان إلي الله. فلابد أن يترك الخطية التي تبعده عن الله.
وهكذا بالضرورة يرتبط الصوم بالتوبة ارتباطاً منطقياً وروحياً.
الصوم بدون توبة غير مقبول أمام الله. وهو أمام الناس عمل ريائي. مجرد مظهر بلا روح.
أما بالتوبة. فحينما يصوم الإنسان. إنما يصوم بقلب نقي. وتشترك روحه مع جسده في صومه.
******
ما هي التوبة؟
ما دامت الخطية هي انفصال عن الله. فالتوبة إذن هي رجوع إلي الله. هي اشتياق قلب كان قد ابتعد عن الله. ثم شعر أنه لا يستطيع أن يبتعد بالأكثر.
ومادامت الخطية هي خصومة مع الله. تكون التوبة إذن هي مصالحة مع الله.
التوبة هي يقظة روحية. هي رجوع النفس إلي حساسيتها الأولي. ورجوع العقل إلي تفكيره السويّ. ورجوع الإنسان إلي نفسه.. التوبة هي صرخة من الضمير. وثورة علي الماضي الخاطئ. ورغبة في تجديد الحياة وتحويلها إلي أفضل...التوبة هي انتصار علي الذات. وعلي كافة ما فيها من ضعفات وهي انتصار أيضاً علي ما في الخارج من إغراءات.
*****
التوبة هي أكثر ما يتضايق به الشيطان. إذ يفشل بها كل جهاده ضد نقاوتنا. والتوبة هي أكثر ما يفرح به الملائكة المراقبون لجهادنا الروحي علي الأرض.
التوبة هي استبدال شهوة بشهوة. فيها تحل شهوة الفضيلة والبر. محل شهوة الخطيئة والإثم.
التوبة هي التحرر من عبودية الخطية. ومن سيطرة العادات الآثمة. وبها يفلت التائب من شباك حاكها حوله الشيطان وجنوده.
التوبة هي تغيير شامل لحياة الإنسان. يشعر بها كل من يعاشره أن حياته قد تغيرت. وأفكاره وأساليبه قد تغيرت. وكذلك أسلوبه ومعاملاته.. كل ذلك قد تغير إلي الأفضل... فليست التوبة مجرد انفعال وقتي نحو الله. إنما هي تحول جدي وجذري في حياة الإنسان. متجها بذلك نحو حياة البر..
****
وأول خطوة في حياة التوبة هي ترك الخطيئة:
والتوبة الحقيقية هي ترك للخطيئة بلا رجعة. لأن الذي يترك الخطية ثم يعود اليها. ثم يتركها ثم يعود.. فهذا لم يتب بعد.. إنما هذه مجرد محاولة للتوبة. كلما يقوم فيها الخاطئ من سقطته. تشده الخطية إلي أسفل. إن صكّ حريته لم يُكتب بعد...
كذلك التوبة معناها ترك الخطية. من أجل محبة الإنسان لله..
ومن أجل محبته لحياة البر.. لأنه ليس كل ترك للخطية يعتبر توبة! فقد يبتعد الإنسان عن الخطيئة بسبب الخوف. أو الخجل. أو العجز. أو المشغولية "مع بقاء محبتها في القلب"! أو قد لا يفعل الخطية بسبب أن الظروف غير متاحة. وكل ذلك لا يعتبر توبة...
****
التوبة أيضاً هي ترك شامل لكل أنواع الخطايا:
وليست تركاً لمجرد خطية بارزة في حياة الإنسان. مع عدم النظر إلي خطايا أخري يعتبرها الشخص بسيطة. بنوع من التساهل وعدم التدقيق! بينما هذه "البسيطة" قد تتطور وتتحول بالوقت إلي شيء خطير!
هذا الأمر يستلزم من كل إنسان جلسة صريحة مع النفس. ويفتش فيها كل دواخلها. وكل عيوبها ونقائصها وسقطاتها من كل نوع: سواء من جهة خطايا الفعل. أو خطايا الفكر. أو الحواس. أو مشاعر القلب ورغباته. أو خطايا النية التي لم تخرج إلي حيز التنفيذ.
وفي تفتيشه لنفسه ومحاسبته لها. لا يكون مجاملاً لذاته. ولا يحاول أن يغطي خطاياه بالأعذار. أو بمحاولات لايجاد تبريرات. أو للتخفيف من حجم الخطية ومقدارها.. كل ذلك لا يقود إلي التوبة...
*****
من أهم ما في التوبة. التخلص من الخطية المحبوبة:
أعني الخطية المتكررة في حياتك. التي تميل اليها وتضعف مقاومتك أمامها. وقد تكون خطيئة واحدة. ولكنها كافية للضياع..وأعرف أن الشيطان قد لا يحاربك بكل الخطايا. إنما هو يختبرك أولا: يمر في أرضك. ويجسها. ويعرف ما هي نواحي الضعف التي فيك. وبكل ذكاء يدرك في أية الخطايا يمكنه أن يحاربك. وفي أيها تكون أسهل سقوطا. وتكون أكثر استجابة له..
فكن صريحا مع نفسك. واعرف من أين تسقط؟ وما هي المواقع غير المحصنة في بنيانك الروحي؟ بل ما هي الخطايا التي يمكن أن تقع فيها. حتي بدون محاربة من الشيطان!! وكن حريصاً..
****
لا تقل إنها نقطة ضعف واحدة. وأنا متمسك بالفضيلة في باقي النواحي!
بل ثق جيدا ان خطية واحدة يمكن أن تفقدك الحياة الأبدية:
إن ثقباً واحداً في قاع السفينة كافي لأن يغرقها. ولا يشترط لغرقها وجود ثقوب كثيرة في قاعها..! ومرض واحد يمكن أن يكون السبب في موت إنسان. ولا يشترط لوفاته اصابته بجميع الأمراض! وبقعة واحدة في ثوب كافية لاعتباره متسخاً. مهما كان جميلاً ونظيفاً في باقي أجزائه! وميكروب واحد يمكن أن يسبب المرض. وليس كل الميكروبات!
لذلك علينا أن نركز علي نقطة الضعف الوحيدة في الحياة. لنصل إلي حياة التوبة. مهما كانت لنا من فضائل في نواحي حياتنا.
****
لا تنظر إلي فضائلك وتفتخر بها. وتنسي ما في حياتك من سيئات!
إن المتهم بالغش أو التزوير أو شهادة الزور. لا يبرره القاضي بحجة انه في حياته كان يحسن علي الفقراء! والمحكوم عليه بالإعدام بسبب القتل. لا تعفيه من الإعدام فضائل معينة في حياته!
إن الخطية لا تمحي بأعمال أخري من البر. بل تمحي بالتوبة.
لذلك لا تضل الطريق. بل حيثما توجد خطيئتك حاربها وقاومها. ولا تحاول أن تغطي علي خطيئة ما بإحدي الفضائل التي لا علاقة لها بهذه الخطية! إن الدمل أو الخراج الذي في جزء من الجسد. لا يشفيه ولا ينظفه ربطه بقماش معقم. أو تناول قرص من الفيتامين! بل يجب معرفة أسبابة ومعالجته وتنظيفه..
*****
كذلك. لكي تتخلص من خطاياك وتصل إلي حياة التوبة. عليك أن تبحث عن اسباب الخطية وتقاومها:
وعلي رأي المثل العامي "الباب الذي تأتيك منه الريح. سده لكي تستريح". فابحث ما هي اسباب الخطية؟ هل هي نتيجة لصداقة منحرفة ذات تأثير عليك. ينبغي أن تتخلص منها.. أم هو انقياد لبيئة معينة. ينبغي تغييرها؟ أم هي عادة مسيطرة يجب التخلص منها؟
أم عدم التوبة سبب التأجيل؟ فالشيطان قد لا يحاربك بعدم التوبة. إنما هو يحاربك بتأجيلها بعض الوقت! وخلال ذلك تبرد عزيمتك.
أم عدم التوبة سببه الضعف واليأس من قدرتك علي التوبة؟!
أم هناك أسباب أخري شخصية؟ علي أية الحالات. أعرف سبب السقوط في الخطيئة. وحاول أن تتفاداه بكل قوتك.
*****
وكما تعالج اسباب السقوط في الخطيئة. عالج أيضاً نتائجها لا يكفي مطلقاً أن تترك الخطية. بينما تترك نتائجها قائمة.
إن كان أحد قد ظلم شخصاً ما. فهل تكفي مجرد توبته عن ظلمه؟!
كلا. بل يجب أن يعيد إلي المظلوم حقه. وإلا يظل ماضيه في الظلم شاهدا عليه أمام الله وأمام ضميره. ويظل المظلوم منه يشكوه إلي الله.
مثال ذلك: مدير ظلم موظفاً في ترقيته. أو خصم له من مرتبه أياماً ظلماً. هل يقول "أنا تبت" وينتهي الموضوع عند هذا الحد؟! كلا. بل يجب أن يصلح نتائج خطيئته. ويعالج حالة المظلوم في ترقيته ومرتبه.
كذلك السارق إذا تاب: هل يجوز له بعد توبته أن يستبقي عنده مالاً حراماً حصل عليه من السرقة؟ كلا. بل يعيد ما سرقه إلي أصحابه. لكي تكمل بهذه توبته. ويمكنه أن يفعل هذا. ولو بطريقة غير مكشوفة.
*****
أيضاً إن كان أحد قد شهّر بإنسان. وأساء إلي سمعته. ينبغي في التوبة أن يرد له اعتباره.. وإن كان قد كذب. عليه أن يعلن الحقيقة.
وباختصار. تكمل التوبة بإعطاء كل ذي حق حقه..وأحيانا تكون في الأمر صعوبة عملياً. ولكن علي الأقل يجب أن توجد النية في إصلاح نتيجة الخطية. وأن يبذل التائب كل جهده في هذا السبيل. ويترك الباقي لنعمة الله ترشده وتساعده علي عمل ما قد عجز فيه.
إن تصرف التائب هكذا. فإن ذلك يساعده علي عدم الخطأ في المستقبل. كما انه يريح ضميره علي قدر ما يستطيع.
****
كمال التوبة
قلنا إن أول درجة في التوبة هي ترك الخطية ..
علي أن ترك الخطية. لا يكون من جهة العمل فقط. وإنما أيضا تركها من جهة الفكر فلا ينشغل الذهن بها. وكذلك من جهة مشاعر القلب. فلا يترك الإنسان الخطية بالعمل. ويظل يحبها ويشتاق إليها! ولهذا قال أحد الآباء:
كمال التوبة هو كراهية الخطية.
فإذا كره الإنسان الخطية لا يعود اليها. كما لا يجد أبداً أية صعوبة في مقاومتها. لأنه لم يعد يشتهيها..مثال ذلك يوسف الصديق. الذي عرضت عليه الخطية بكل إغراء وإلحاح. فرفضها. لأنه كان يكرهها. وكان قلبه نقياً.
ايضاً أي إنسان مهذب. لا يستطيع أن يلفظ كلمة نابية. مهما كانت الظروف. بسبب كراهيته الشديدة للكلام النابي الذي لا يتفق مع مبادئه وقيمه الروحية.
*****
والتوبة بكمالها وكل مستوياتها هي الخطوة الأولي في الطريق الروحي والسير مع الله. في طاعة له..
هي بداية السير في مخافة الله. لأن الذي يخاف الله لا يجرؤ أن يعصي وصاياه. ويستحي أن يخطئ أمام الله الذي يراه ويسمعه. وكما قيل في المزمور "بدء الحكمة مخافة الله"..
بالتوبة نستوفي الجانب السلبي في الحياة الروحية. أي البعد عن الخطيئة والإثم.. ويبدأ بعد ذلك الجانب الإيجابي. وهو عمل البر. ثم النمو في هذا البر إلي أعلي المستويات التي تستطيعها الطبيعة البشرية بمؤازرة النعمة الإلهية لها.
******
من ثمار التوبة
* أول ثمرة للتوبة. هي مغفرة الخطايا. إذا ما كانت توبة حقيقية مقبولة من الله. وكانت أيضاً توبة ثابتة..
* من ثمار التوبة أيضا: الاتضاع وانسحاق القلب..
والبعد عن الافتخار والكبرياء. إذ يتذكر التائب سقطاته وضعفه.
* ولهذا فمن ثمار التوبة الشفقة علي المخطئين. إذ قد جرب التائب أنه هو ايضا قد مرت عليه فترات ضعف قد سقط فيها. لذلك لا يقسو في أحكامه علي من أخطأ. لأنه يعرف ضعف الطبيعة البشرية. وقسوة حروب الشيطان.
* أيضا من ثمار التوبة الحماس الروحي للسير في هذه الحياة الجديدة الفاضلة التي نالها بتوبته.
* وفي الحماس يحرص التائب علي التدقيق الشديد في سلوكه. حتي لا يعود ليسقط مرة أخري.