هذه الفترة الصاخبة التي تعيشها البشرية علي الأرض لا تقاس إطلاقاً بالهدوء الذي كان منذ الأزل والذي سيكون في الأبد إلي ما لا نهاية إنها نقطة مضطربة في بحر من الهدوء اللانهائي..
ولعل الملائكة ينظرون إلي عالمنا في تعجب
ولعلهم يقولون: ما هذا الضجيج في هذا الكوكب؟!
ولماذا يعيش الناس في صخب هكذا؟!
متي يهدأون؟
يقيناً إنهم لن يهدأوا. إلا إذا وصلوا إلينا..
لأن الهدوء هو منهج الحياة في السماء..
****
تاريخ الهدوء
الهدوء هو الأصل في هذا الكون
وهو الأصل قبل خلق الكون أيضاً
كان الله وحده في الأزل. في هدوء كامل..
ملايين السنوات مرت. أو ملايين الملايين. بل ما هو أكثر.
بل قبل أن يوجد الزمن. وقبل أن تُعرف مقاييسه. والهدوء هو الأصل.
وأخذ الله يعمل في هدوء. وكان عمله الأول هو الخلق.
في هدوء كامل خلق الله كل شيء. ونظر إلي كل ما عمله. فإذا هو حسن جداً. وهكذا تمت كل قصة الخلق في هدوء..
خلق الله الكون. وعاش الكون في هدوء. وكمثال لذلك. كانت الأجرام السمائية تتحرك في الفلك. بكل نظام ودقة. وبكل هدوء. بدون اضطراب. نهار يعقبه ليل. وليل يعقبه نهار. بلا ضجيج ولا صراع.
****
إذن متي بدأ الكون يفقد هدوءه؟
كان ذلك بعد أن خلق الله مخلوقات عاقلة. ذات إرادة حرة!
مرت علي هذه الكائنات العاقلة فترة وهي هادئة. ليس من يخالف ولا من يعصي. ولا من يثير إشكالاً أو اضطراباً بأية صورة.. ثم كان أول فقدان للهدوء بسبب الشيطان.
هذا كان ملاكاً. ثم تمرد وفقد هدوءه فصار شيطاناً. وأسقط معه مجموعة من جند السماء. فصاروا شياطين مثله. وأصبح عملهم هو الجولان في الأرض والتمشي فيها. لعلهم يسقطون منها أحداً.
****
ومن جهة البشرية. عاش الإنسان الأول في هدوء وهو في الجنة.
حتي الوحوش كانت تحيا معه في هدوء.
لا عداوة بينهما. لا هي تفترسه ولا تهجم عليه. ولا هو يصطادها أو يطاردها. ولا يخافها. بل تجمع الإنسان والوحوش رابطة من الألفة والمعيشة المشتركة الهادئة.
والحيوانات المفترسة لم تكن مفترسة في أيام آدم وحواء. لم يكن الافتراس قد دخل بعد إلي العالم. إذ كان العالم لا يزال يحتفظ بهدوئه. وكانت الوحوش في ذلك الوقت تأكل العشب. لم تكن فيها "الوحشية" التي دعيت بها وحوشاً. بل كانت هادئة.
ثم فقد الإنسان هدوءه بعصيانه لله. وطُرد من الجنة وأدركه الخوف. ففقد هدوءه الداخلي. وساءت العلاقة بينه وبين الوحوش. فأصبح يصيدها. وهي تفترسه. وكما فُقد الهدوء بين الإنسان والحيوان. فُقد الهدوء بين الإنسان والإنسان. وإذا بهابيل البار يقتله أخوه. ودخل الشر في الأرض وانتشر. وفقدت الأرض هدوءها. وعرفت الحروب والصراعات.
****
إنها قصة مأساة. تحوّل بها الإنسان من عمق الهدوء. إلي عمق الاضطراب. وفقدان السلام داخل نفسه ومع الغير
وصار الإنسان يبحث عن الهدوء ويشتاق إليه.
فما هو الهدوء؟ وما عناصره؟ وما الفضائل التي ترتبط بالهدوء؟
وكيف يمكن للإنسان أن يحصل علي الهدوء. ويستمر فيه؟
هذا ما نود أن نتحدث فيه في هذا المقال وما يليه.
عناصر الهدوء
الهدوء يشمل حياة الإنسان كلها.. ونذكر من ذلك:
- الهدوء الداخلي. ويشمل هدوء النفس والقلب والفكر
- هدوء الجسد. ونعني به هدوء الحواس. وهدوء الحركات
- هدوء الأعصاب: ويدخل فيه عدم النرفزة. وهدوء الملامح والصوت
- هدوء التصرف: ويشمل الهدوء في الحياة العملية. والتعامل مع الغير. وهدوء الحلول فيما يصادف الإنسان من مشاكل.
نضيف إلي هذا كله هدوء الطبيعة والمكان والمسكن
وهدوء المجتمع المحلي. والمجتمع الإنساني كله بما فيه من دول وشعوب. وما ترتبط به من علاقات.
****
الهدوء الحقيقي
لا يمكن أن نحكم علي إنسان بأنه هاديء. إلا إذا حدث اختبار لهدوئه.
فقد يبدو الإنسان هادئاً. لأن الظروف الخارجية التي حوله هي الهادئة. ولم تحدث مشكلة أو إثارة تختبر هدوءه. وربما لو حدث اصطدام به. لظهر علي حقيقته.
فإن اختلف مع غيره في الرأي أو في التصرف. أو إن أصابه أذي. أو تعرّض إلي إهانة أو كلمة جارحة. حينئذ يمكن من تصرفه الحكم علي هدوئه. ونفس الوضع إذا وقع في مشكلة ما. أو في ضيقة. أو تعرّض لمرض. أو إن واجهته صعوبة ما.. فإن هذا كله يكون اختباراً لنفسيته. واختباراً لأعصابه: كيف يسلك وكيف يتصرف؟
وهل يفقد هدوءه أم يحتمل ويحل مشكلته في هدوء..؟
هذا هو أول اختبار للهدوء. لأن كل إنسان يمكنه أن يكون هادئاً في الظروف الهادئة.
****
،، البقية غداً ،، بمشيئة الرب