ربط الآباء بين المعمودية والاستنارة، اعتمادًا على ما ورد في الكتاب المقدس عنها، وأسموها "سر الاستنارة"، فهي تنقلنا من مملكة الشيطان (مملكة الظلمة) إلى مملكة النور. وكما أن المعمودية هي موت وقيامة مع المسيح، فهي بالتالي انتقال من القبر إلى نور القيامة، لذلك يقول القديس أغسطينوس: "فإذا كانت المعمودية هي التمتُّع بقيامة الرب فينا، لذا فقد دُعِي هذا السر: ’استنارة‘." ويقول القديس كيرلس الأورشليمي في عظته الأولى للمُعمَّدين: "عظة للذين سيستنيرون في أورشليم"؛ يقصد الذين سيتعمّدون.
وقد اُستُخدِم اصطلاح "استنارة" للمعمودية بدايةً من القرن الثاني الميلادي، من قِبَل القديسين: يوستينوس وكليمندس السكندري وأغسطينوس ويوحنا ذهبي الفم وغريغوريوس النزينزي، وغيرهم، بل وترد الآية «لأنَّ الّذينَ استُنيروا مَرَّةً...» (عبرانيين 6: 4) في النسخة السريانية: "الذين نزلوا مرّة إلى المعمودية..."
ودُعِي عيد عماد السيد المسيح بـ"عيد الأنوار"، ولنفس السبب اعتاد المعمدون قديمًا أن يحملوا الشموع أو السرّج أو المشاعل بعد خروجهم من الجرن مباشرة، وكان المُعمَّدون – وما يزالون – يرتدون الملابس البيضاء، وتُحمَل لهم الشموع بعد معموديتهم. وفي القرن الأول الميلادي كان الخورس يرتِّل ترتيلة للمُعمَّدين حال خروجهم من جرن المعمودية، أشار إليها القديس بولس: «لذلكَ يقولُ: استَيقِظْ أيُّها النّائمُ وقُمْ مِنَ الأمواتِ فيُضيءَ لكَ المَسيحُ» (أفسس 5: 14)، وقال بعض المفسِّرين إنه اقتباس من اشعياء النبي القائل: «قومي استَنيري لأنَّهُ قد جاءَ نورُكِ...» (إشعياء 60: 1). ويذكر العلّامة جيروم أن واعظًا في أيامه تخيّل أن هذا النداء قد وُجِّه إلى آدم وهو في الجلجثة ليقوم من رقدته، فالمسيح سينير له.
ولعل ارتباط الثياب البيض بالزنّار الأحمر، هو التأكيد على ارتباط دم الصليب بنور القيامة، وكما يخرج الإنسان من ظلمة الرَحِم إلى نور الحياة، هكذا يخرج الإنسان من قبر المعمودية إلى نور الحياة مع المسيح، وإن كُنّا نتألم معه فلكي نتمجّد معه أيضًا؛ يقول القديس غريغوريوس النزينزي: "المعمودية هي ابنة النهار، فتحت أبوابها فهرب الليل الذي دخلت إليه الخليقة كلها!"
ولعلنا نلاحظ أن الكنيسة المُلهَمة بالروح القدس في ترتيب آحاد الصوم الكبير، تفرأ في قداس أحد التناصير إنجيل المولود أعمى (يوحنا 9)، قد أرادت أن تربط بين الاستنارة التي ننالها في المعمودية والمجد الذي سيأخذنا اليه المسيح بدءًا من دخوله الانتصاري (أحد الشعانين) إلى صلبه (والذي أسماه مجدًا أيضًا إذ يقول: «... لأنَّ يَسوعَ لَمْ يَكُنْ قد مُجِّدَ بَعدُ» أي صُلِب). في هذا الاصحاح (يوحنا 9) نلاحظ أن المولود أعمى حالما اغتسل في سلوام (إشارة إلى المعمودية) «أتَى بَصيرًا» ومن ثَمّ استنار عقله، وراح يوبِّخ اليهود المحتجّين واعظًا إياهم: «... ونَعلَمُ أنَّ اللهَ لا يَسمَعُ للخُطاةِ. ولكن إنْ كانَ أحَدٌ يتَّقي اللهَ ويَفعَلُ مَشيئَتَهُ، فلهذا يَسمَعُ. منذُ الدَّهرِ لَمْ يُسمَعْ أنَّ أحَدًا فتحَ عَينَيْ مَوْلودٍ أعمَى. لو لَمْ يَكُنْ هذا مِنَ اللهِ لَمْ يَقدِرْ أنْ يَفعَلَ شَيئًا». (يوحنا 9: 31-33).
إن المعمودية هي سر استنارة الكنيسة، والاستنارة هي العطية التي تُمنَح لنا من خلالها، ونحصل على الاستنارة من الروح القدس المرتبط بالمعمودية (سر التثبيت)، وبالتالي فالمُعمَّد الذي استنار بالروح القدس يصبح من ثَمّ قادرًا على التمييز بين الخير والشر، أو الجيد والرديء، وكذلك الأمور المتخالفة، وفي هذا الصدد يقول القديس باسيليوس الكبير عن الروح القدس إنه "مصدر القداسة والنور العقلي والذي يهب كل الخليقة الاستنارة لفهم كل شيء". وفي صلاة باكر يوميًا تذكِّرنا الكنيسة مع إشراقة النور (موعد هذه الصلاة) بالاستنارة التي حصلنا عليها من المعمودية، إذ نقرأ ما كتبه القديس بولس: «رَبٌّ واحِدٌ، إيمانٌ واحِدٌ، مَعموديَّةٌ واحِدَةٌ» (أفسس 4: 5)، لكي نسلك في النور خلال اليوم.
وبالمعمودية، وبصيرورتنا أبناء للمسيح إذ تمنحنا المعمودية التبنّي، نسير في النور، لأن المسيح هو النور ومن يتبعه لا يسلك في الظلام: "الله هو نور، وساكن في النور، وتسبّحه ملائكة النور" (ثيئوتوكية الاثنين)، وعندما قال القديس بولس: «لأنَّ كُلَّكُمُ الّذينَ اعتَمَدتُمْ بالمَسيحِ قد لَبِستُمُ المَسيحَ» (غلاطية 3: 27)، فانهم بذلك يلبسون النور كحُلَّة لأن الله هو النور. ويقول القديس بولس: «لأنَّ اللهَ الّذي قالَ: أنْ يُشرِقَ نورٌ مِنْ ظُلمَةٍ، هو الّذي أشرَقَ في قُلوبنا، لإنارَةِ مَعرِفَةِ مَجدِ اللهِ في وجهِ يَسوعَ المَسيحِ» (كورنثوس الثانية 4: 6).
كذلك صرّح السيد المسيح: «إنْ كانَ أحَدٌ لا يولَدُ مِنْ فوقُ لا يَقدِرُ أنْ يَرَى ملكوتَ اللهِ... إنْ كانَ أحَدٌ لا يولَدُ مِنَ الماءِ والرّوحِ لا يَقدِرُ أنْ يَدخُلَ ملكوتَ اللهِ» (يوحنا 3: 3 و5)، ويرى بعض الشُرّاح أن الأطفال الذين لم يتعمّدوا سيوجدون في الملكوت ولكنهم لن يقدروا أن يعاينوا مجد الله. وهكذا فالعينين العميتين أبصرتا بالمعمودية، لأنه في المعمودية ينال الإنسان الطبيعة الجديدة، فكل إنسان يولد أعمى ولا يقدر أن يرى ملكوت الله، أما بعد عماده تنفتح عيناه لأن المعمودية فيها استنارة. ولعلنا نتذكر هنا كيف أن القديس بولس عندما تأهّب ليعتمّد «فللوقتِ وقَعَ مِنْ عَينَيهِ شَيءٌ كأنَّهُ قُشورٌ، فأبصَرَ في الحالِ، وقامَ واعتَمَدَ» (أعمال 9 : 18).
فالمعمودية هي الاستنارة لمعاينة ملكوت الله. ولا يستطيع أحد أن يعاين ملكوت السماوات إن لم يولد من فوق «الحَقَّ الحَقَّ أقولُ لكَ: إنْ كانَ أحَدٌ لا يولَدُ مِنْ فوقُ لا يَقدِرُ أنْ يَرَى ملكوتَ اللهِ» (يوحنا 3: 3)، وعندما سأله نيقوديموس: «كيفَ يُمكِنُ الإنسانَ أنْ يولَدَ وهو شَيخٌ؟...» أجابه: «الحَقَّ الحَقَّ أقولُ لكَ: إنْ كانَ أحَدٌ لا يولَدُ مِنَ الماءِ والرّوحِ لا يَقدِرُ أنْ يَدخُلَ ملكوتَ اللهِ» (يوحنا 3: 5).
ومن هنا نفهم كلمات القديس بولس الرسول أن «لأنَّ الّذينَ استُنيروا مَرَّةً (أي الذين نالوا سرّ العماد)، وذاقوا المَوْهِبَةَ السماويَّةَ، وصاروا شُرَكاءَ الرّوحِ القُدُسِ، وذاقوا كلِمَةَ اللهِ الصّالِحَةَ وقوّاتِ الدَّهرِ الآتي، وسقَطوا، لا يُمكِنُ تجديدُهُمْ أيضًا للتَّوْبَةِ (أي لا تعاد معموديتهم)» (عبرانيين 6: 4-6)، لأن السيد المسيح قد صُلِب مرة واحدة: «فإنَّهُ إنْ أخطأنا باختيارِنا بَعدَما أخَذنا مَعرِفَةَ الحَقِّ، لا تبقَى بَعدُ ذَبيحَةٌ عن الخطايا، بل قُبولُ دَينونَةٍ مُخيفٌ، وغَيرَةُ نارٍ عَتيدَةٍ أنْ تأكُلَ المُضادّينَ» (عبرانيين 10: 26، 27).
يقول القديس يوحنا ذهبي الفم عن المُعمَّدين الجُدد إنهم "يضيئون أكثر من النجوم وأكثر ضياءً، حيث ينيرون في النهار والليل، ويضيئون وجوه من يتطلّعون إليهم"، وقد استخدم الرب يسوع الشمس ليشير إلى ضياء الأبرار (متى 13: 43).
ويرى الآباء أن المعمودية في هذه الآية - والتي هي الاستنارة - هي المدخل لكل النعم «لأنَّ الّذينَ استُنيروا مَرَّةً، وذاقوا المَوْهِبَةَ السماويَّةَ، وصاروا شُرَكاءَ الرّوحِ القُدُسِ، وذاقوا كلِمَةَ اللهِ الصّالِحَةَ وقوّاتِ الدَّهرِ الآتي، وسقَطوا، لا يُمكِنُ تجديدُهُمْ أيضًا للتَّوْبَةِ، إذ هُم يَصلِبونَ لأنفُسِهِمْ ابنَ اللهِ ثانيَةً ويُشَهِّرونَهُ» (عبرانيين 6: 4-6)، ومرة أخرى يقول: «ولكن تذَكَّروا الأيّامَ السّالِفَةَ الّتي فيها بَعدَما أُنِرتُمْ صَبَرتُمْ علَى مُجاهَدَةِ آلامٍ كثيرَةٍ» (عبرانيين 10: 32) ويقصد بالطبع المعمودية، والتي جعلتهم في معيّة المسيح، وكل من يتبع المسيح لابد وأن يحمل الصليب، ويصبر على التجارب.
إنه سر الاستنارة وإدراك أمور الله، كما أشار القديس بولس قائلاً: «مُستَنيرَةً عُيونُ أذهانِكُمْ، لتَعلَموا ما هو رَجاءُ دَعوَتِهِ، وما هو غِنَى مَجدِ ميراثِهِ في القِدّيسينَ، وما هي عَظَمَةُ قُدرَتِهِ الفائقَةُ نَحوَنا نَحنُ المؤمِنينَ، حَسَبَ عَمَلِ شِدَّةِ قوَّتِهِ» (أفسس 1: 18، 19).
ويقول القديس غريغوريوس النزينزي في عظته الأربعين عن المعمودية:
"الآن لنتكلم عن الميلاد الثاني، الذي هو لازم وضروري لنا، والذي يعطى اسمه (الاستنارة) لعيد الأنوار الذي هو عيد الغطاس، فالاستنارة هي مجد النفس وتحوُّل الحياة، وهي معين ضعفنا، وإنكار اللحم (الجسد) واتباع الروح، وشركة الكلمة وتجدُّد الخليقة، وسحق الخطية وشركة النور، وانحلال الظلمة هو الانطلاق نحو الله، وهي الموت مع المسيح، وكمال العقل وقوة الإيمان ومفتاح الملكوت، وتغيير الحياة وإلغاء العبودية، وفكاك السلاسل وإعادة صياغة الانسان... الاستنارة هي أعظم وأمجد عطية لله، وكما نقول قدس الأقداس ونشيد الأناشيد لنعبِّر عن أعظم قدس وأعظم نشيد، هكذا الاستنارة باعتبارها أكثر قداسة من أيّة إنارة".