بدأ الصوم الكبير والذي نسميه "ربيع العام الروحي" فيه تتفتح الاشتياقات الروحية وتنطلق عواطف الإنسان الروحية، تنهض الهمم للصلاة في المخادع ويتخلى الإنسان مؤقتاً عن احتياجاته الجسدانية بمختلف أوجهها، حتى يتسنى له أن يتذوق الشبع الروحي وكيف يصبح الله له كل شيء، فإذا ما اختبر ذلك وتأكد كيف أنه ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان (متى 4) فعندئذ يتعلم كيف يتنازل إلاّ عن القوت والاحتياج الضروري للحياة، مهتماً فقط بما يؤهله للملكوت، فكما تسببت شهوة الطعام في طرد الإنسان من حضرة الله، هكذا ضبط النفس والتفكير في الإلهيات يعيده من جديد إلى هذه النعمة.
كما أن الصوم هو ذبيحة، يقول مار اسحق أن الله لن ينسى لك حتى اللعاب الذي ييبس في فمك بسبب الصوم، والصوم في مفهومه البسيط هو الامتناع عن الطعام كعلامة من علامات ضبط النفس، يتبعها أشكال متعددة من الضبط: مثل ضبط الفكر وضبط اللسان وغيرها .. ولكن الصوم في معناه الأرقى هو الانشغال بالله من خلال العمل الروحي (من صلاة وتأمل وقراءة) وبالتالي يضعف التفكير في الأكل والشرب وغيرهما من اهتمامات الجسد.
ولاشك أن الصوم يحتاج إلى جهاد لا سيّما بالنسبة لأولئك المستعبدين لشهوة الطعام. ومن هنا فإن الصوم ُيحسب ذبيحة، إذ أن الذبيحة هي التضحية بما هو ثمين وغالٍ حباً في الله، الذي سنتفرّغ لعبادته. وكلما كان الإنسان جسدانياً كلما كان تفكيره منحسراً في الأمور الجسدانية مثل الطعام والشراب والشهوة الرديئة، أمّا الإنسان الروحي فعقله منجذب نحو السماء والمجد، فيتضاءل حبه وانشغاله بالأرضيات.
وهذا يفسر لنا لماذا كان طعام الكثير من القديسين قليلاً جداً، فالبعض اكتفى بالقليل من التمر والآخر بالقليل من الخبز اليابس والبعض الثالث بالقليل من الأعشاب أو البقول، ومع ذلك فقد عمروا طويلاً وكانوا أصحاءا، فتقرأ عن القديس أنطونيوس أنه خرج من الحبس والنسك وهو بشوش صحيح الجسم، بل لقد عاش مئة وخمس سنوات ولم تكل عينه ولا فقد واحدة من أسنانه.
فلنصم صوماً روحانياً بالصلاة والدموع والسجود أمام الله