كثيرون تبعوا المسيح بشروط، وآخرون تراجعوا عنه لاحقًا، والبعض استمرّوا ولكن متذمِّرين، وهناك من يتبعونه شكليًا فقط وهم لا يحملون سماته الباطنية، كما أنهم مستعدون لإنكاره عند أدنى ضغط. وقد وضع السيد المسيح شروطًا لتبعيته، وعليها سوف يقتني الإنسان نفسه أو يتسبّب في هلاكها، أول تلك الشروط هو:
1- التخلّي:
التخلّي عن الممتلكات والأهل: «إنْ كانَ أحَدٌ يأتي إلَيَّ ولا يُبغِضُ أباهُ وأُمَّهُ وامرأتَهُ وأولادَهُ وإخوَتَهُ وأخَواتِهِ، حتَّى نَفسَهُ أيضًا، فلا يَقدِرُ أنْ يكونَ لي تِلميذًا» (لوقا 14: 26)؛ والبغضة هنا لا تعني الكراهية وإنما تعني أن يأتي ترتيب الله أولاً ودائمًا، وبذلك يزول التناقض الظاهري بين هذه البغضة للأهل من جهة، ووصية إكرام الوالدين من جهة أخرى: «أكرِمْ أباكَ وأُمَّكَ لكَيْ تطولَ أيّامُكَ علَى الأرضِ التي يُعطيكَ الرَّبُّ إلَهُكَ» (خروج 20: 12)، كما يقول القديس يوحنا: «كُلُّ مَنْ يُبغِضُ أخاهُ فهو قاتِلُ نَفسٍ، وأنتُمْ تعلَمونَ أنَّ كُلَّ قاتِلِ نَفسٍ ليس لهُ حياةٌ أبديَّةٌ ثابِتَةٌ فيهِ» (1يوحنا 3: 15)، كذلك يقول القديس بولس: «وإنْ كانَ أحَدٌ لا يَعتَني بخاصَّتِهِ، ولا سيَّما أهلُ بَيتِهِ، فقد أنكَرَ الإيمانَ، وهو شَرٌّ مِنْ غَيرِ المؤمِنِ» (1تيموثاوس 5: . ولقد مَنَعَ التعلُّق العاطفي والمَرَضي بالأهل الكثيرين من تبعية الرب، ليس على مستوى الرهبنة والتكريس فحسب، بل حتى في الخدمة وفي التناول وفي عمل الخير، وعندما دعا الرب البعض لتبعيته استعفى بعضهم قائلاً: «وقالَ لآخَرَ:"اتبَعني". فقالَ:"ياسيِّدُ، ائذَنْ لي أنْ أمضيَ أوَّلاً وأدفِنَ أبي".» (لوقا 9: 59).
2- ترك المقتنيات:
وهو ما اختبر به الرب الشاب الغني: "«بِعْ أملاكَكَ وأعطِ الفُقَراءَ، فيكونَ لكَ كنزٌ في السماءِ، وتعالَ اتبَعني» (متى 19: 21)، ولكن الشاب الذي تمسّك بماله خسر الملكوت، لأنه لا يمكن التمسك بالاثنين: «لا يَقدِرُ خادِمٌ أنْ يَخدِمَ سيِّدَينِ، لأنَّهُ إمّا أنْ يُبغِضَ الواحِدَ ويُحِبَّ الآخَرَ، أو يُلازِمَ الواحِدَ ويَحتَقِرَ الآخَرَ. لا تقدِرونَ أنْ تخدِموا اللهَ والمالَ» (لوقا 16: 13).
كثيرين يحبّون الجسد، ويدلّلون الجسد: يشترون الأفضل، ويأكلون الأسمن والأثمن، ويتفنّنون في ألوان الطعام، يغيّرون الأثاث والديكورات، يخرجون للعشاء، يسافرون للتنّزه، يرتدون أفخر الثياب ويشترونها من أشهر المحال، وهي أمور ليست مرفوضة تمامًا، ولكن المرفوض هو أن تحلّ هذه الاهتمامات مكان الله: «ولكن الذينَ هُم للمَسيحِ قد صَلَبوا الجَسَدَ مع الأهواءِ والشَّهَواتِ» (غلاطية 5: 24)، والعجيب أن الناس يغفلون عن أن كل ذلك سيتركونه كارهين، ونرى ونسمع ونشارك كثيرًا في الصلاة على الراقدين، ونتأكد أنهم خرجوا كما وُلِدوا، ولكننا سريعًا ما ننسى ونعود إلى سابق اهتماماتنا الأرضية.
كم من مرّة منعت شهوة الطعام البعض من الصوم؟ وكم مرّة منع السهر واللهو من أن نبكِّر للقداس؟ وكم مرّة ضغطنا على ضمائرنا للحصول على مزيد من المال لإرضاء شهواتنا ورغباتنا المادية؟
كم من مرة استغلّ الناس احتياج الكنيسة إلى عقارات وأراضي لخدمة الشعب، فتاجروا بالكنيسة في وضوح ودون حياء، ونسوا أن الكنيسة باقية وهم زائلون! في حين أحسن كثيرون إلى الكنيسة من خلال المساهمة والتبرّع والتنازل عن حقوقهم، لينالوا بركة، ويكنزوا لهم كنزًا في السماء، بل الأكثر من ذلك لم يشعروا في أنفسهم أنهم يصنعون خيرًا في الكنيسة، كما لم يحصلوا على ضمانات أن ما يصنعونه يستحق المكافأة، بل لم يهتموا أصلاً، واكتفوا بأنهم إنما يفعلون ذلك حبًّا بالمسيح وفي هذا سعادتهم.
3- التخلّي عن الذات (إنكار الذات):
يقول الرب: «حتَّى نَفسَهُ» (لوقا 14: 26)، فحمل الصليب فيه إهانة للذات: فقد كان المحكوم عليه بالصلب يسير حاملاً صليبه وأمامه من يحمل لافته عليها التهمة المنسوبة إليه، ويشبع تعييرًا وشتمًا وإهانة من المصطفّين على الطريق ومن المارّة، ويُقذَف بالحجارة، تشيّعه نظرات الشماتة. ولذلك فحمل الصليب يقترن بإنكار الذات، فكم من مرّة حالت الذات بين شخص وبين إكليل الشهادة، أو بينه وبين فضيلة من الفضائل، كالاحتمال والعطاء وغيرها.
من هنا أيضًا فإن المعمودية هي أول اسرار الكنيسة، عبارة عن موت وحياة، دفن وقيامة؛ فهي مدخل تبعية المسيح، وهي بالتالي الدرس المسيحي الأول، ففيها التعرّي من العالم، وفيها جحد الشيطان والخروج من مملكته كشرط لتبعية المسيح. لذلك فكل من يحب نفسه يهلكها ومن ينكر نفسه يخلّصها، وعلينا بالتالي أن نفعل ما يبني أنفسنا لا ما يرضي أنفسنا. القديس بولس نقل لنا هذه الخبرة عندما قال: «لكن ما كانَ لي رِبحًا، فهذا قد حَسِبتُهُ مِنْ أجلِ المَسيحِ خَسارَةً. بل إنِّي أحسِبُ كُلَّ شَيءٍ أيضًا خَسارَةً مِنْ أجلِ فضلِ مَعرِفَةِ المَسيحِ يَسوعَ رَبِّي، الذي مِنْ أجلِهِ خَسِرتُ كُلَّ الأشياءِ، وأنا أحسِبُها نُفايَةً لكَيْ أربَحَ المَسيحَ» (فيلبي 3: 7، .
+ + + + + + + + +
،، البقية غداً ،، بمشيئة الرب
بمناسبة احتفالات عيد الصليب المجيد تبعية المسيح وحمل الصليب بقلم نيافة الانبا مكاريوس