وقد نُسِبت صفة "بطء الغضب " إلى الله عندما نادى الرب لموسى: «الرَّبُّ إلهٌ رحيمٌ ورَؤوفٌ، بَطيءُ الغَضَبِ...» (خروج34: 6)، وكذلك في مواضع أخرى مثل: (عدد14: 18، مزمور86: 15، 103: 8، 145: 8، نحميا9: 17، يوئيل2: 13، يونان4: 2، ناحوم1 :3)؛ وترتبط في أكثر هذه المناسبات بالرحمة والرأفة وكثرة الإحسان.
والفرق بين الكلمة اليونانية "هوبوموني" (التي تُترجَم بالصبر) وكلمة "مكروتوميا" (الأناة) هو أن الكلمة الأخيرة تعبِّر عن الصبر بالنسبة للأشخاص، بينما الكلمة الأولى تعبِّر عن الصبر فيما يتعلق بالأشياء، ومن ثَمّ لا نجد الكلمة "هوبوموني" تُنسَب إلى الله مطلقًا، وعندما يُقال عنه: «إله الصبر» كما ورد في (رومية15: 5) يكون المقصود أنه هو الذى يعطي الصبر لعبيده وقديسيه.
أمّا لماذا يطيل الله أناته؟: فلأنه يعرف ضعفنا، ولأنه يعرف مسبقًا كيف يمكن أن يتحوّل الإنسان فيتخلّى عن شره، ولأنه كذلك يهب الناس العديد من الفرص لعلهم يتوبوا، ولأن الإنسان يكتسب الخبرة مع الوقت، وكذلك لكي تكون أمامه فرصة لكي يراجع نفسه ويتخلّى عن طرقه الرديئة، مقدِّمًا توبة. إن التهديد والعناد وتوجيه الاتهام من شأنه أن يُقابَل بالعناد من الإنسان فينحمق، ولذلك فإن نغمة التهديد والوعيد والسخرية تأتي غالبًا بنتائج عكسية.
كما أن شعور الإنسان أنه مهما قدّم توبة فلن يُقبَل ولن يجد من يسمع اعتذاره، من شأنه أن يجعله ييأس ويمعن في الشرور، ومن هنا لا يجب أن نصنِّف الناس ونغلق على التصنيف مهما حدث أو تغيّر أو اعتذر.
إني أتعجّب كثيرًا من الأمهات اللائي يطلن أناتهن على أولادهن لا سيما في الصغر والمراهقة، دون كلل أو ملل، ومهما صدر منهم من حماقات أو مشاكل وخسائر، يحتملون ذلك بفرح وحتى إن تذمّرن فإن هذا ناتج عن ملل أو ضعف عابر، بل وبعد معاناة معهم قد تصل إلى العشرين عامًا وما يزيد تجمل الأم كل ما حدث بابتسامة طيبة وهي تقول: "كان شقيًا" أو "أتعبنا قليلاً في تربيته"! فكم بالأحرى الله، المملوء أحشاء رافة، هكذا تعلّم القديس بولس فقال: «بل كُنّا مُتَرَفِّقينَ في وسطِكُمْ كما تُرَبّي المُرضِعَةُ أولادَها» (تسالونيكي الأولى2: 7).
وهكذا أيضًا الآباء المرشدين في الحياة النسكية.. انتهجوا طول الاناة مع أبنائهم وبناتهم، فلم يبخلوا عليهم بالنصح "المتكرِّر"، ولم يرفضوهم عندما رفضهم الأبناء وتركوهم، ولما أغلقوا قلوبهم نبّهوهم فقط، ولكن المرشدين الروحيين يَصِلون في بعض الأحيان إلى الحد الذي لا يستطيعون فيه تقديم ما هو جديد، فيُقال عندئذ: «ماذا يُصنَعُ أيضًا لكَرمي وأنا لَمْ أصنَعهُ لهُ؟ لماذا إذ انتَظَرتُ أنْ يَصنَعَ عِنَبًا، صَنَعَ عِنَبًا رَديئًا؟» (إشعياء5: 4)، ويكتفي المرشد أو الأب بالصمت، هذا يختبره الآباء مع أولادهم، والمرشدون مع تلاميذهم.
أمّا الله فبلا حدود يطيل أناته، وينجح في كل مرة، ولكن ليس شرطًا أن يكون النجاح هو استجابة الإنسان، وإنما أن يُغلَب الله من محبته وحنوه هذا أعظم.. ذلك لأن بعض الخطاة لا يستجيبون بل يتطاولون بالأكثر.
أمّا الذين سيهلكون فهم الذين استهانوا بطول أناة الله، ولكن هلاكهم لن يكون بسبب قصاص الله لنفسه ولكنه نتيجة طبيعية لعنادهم: «ولكنكَ مِنْ أجلِ قَساوَتِكَ وقَلبِكَ غَيرِ التّائبِ، تذخَرُ لنَفسِكَ غَضَبًا في يومِ الغَضَبِ واستِعلانِ دَينونَةِ اللهِ العادِلَةِ، الّذي سيُجازي كُلَّ واحِدٍ حَسَبَ أعمالِهِ» (رومية2: 5،6).
روى البعض أن أحد الوعّاظ كان يحذِّر الناس من الدينونة المزمعة وانتقام الله، فوقف أحد الحاضرون وتحدّى الله أمام الجميع قائلاً: "إن كان هناك إله فعلاً وحيٌّ وقادر فليمتني خلال ثوانٍ من الآن ليؤمن الآخرون"، ولما لم يضرّه شيء والناس يشاهدون في تعجُّب، حينئذ تحدّى الواعظ قائلاً: "إذًا فإن ما تنادي به هو هراء.. ولا يوجد إله كما تدّعي"، فأجاب الواعظ : "كلاّ؛ ولكن الله لا يتعامل معك حسب جهلك، وإنما يطيل أناته عليك". يقول معلمنا بطرس: «لكنهُ يتأنَّى علَينا، وهو لا يَشاءُ أنْ يَهلِكَ أُناسٌ، بل أنْ يُقبِلَ الجميعُ إلَى التَّوْبَةِ» (بطرس الثانية3: 9). وينبّه القديس بولس قائلاً: «أم تستَهينُ بغِنَى لُطفِهِ وإمهالِهِ وطول أناتِهِ، غَيرَ عالِمٍ أنَّ لُطفَ اللهِ إنَّما يَقتادُكَ إلَى التَّوْبَةِ؟» (رومية2: 4).
وحدث أن فتىً صغيرًا راح يثير والده ويستفزّه، فلما تمادى هدّده الأب بدعابة أنه سيضربه، ولكن الابن تمادى قائلاً:"لا تقدر"، أجابه الأب: "بل أقدر؛ ولكن لأني أب فلا أود ذلك"...
وفي حين يصبر الله علينا حتى نتجاوز ضعفاتنا نجد أن الكثير من الناس لا سيما الأقوياء يفتقرون إلى الصبر، ولكن الله ما يزال يطيل أناته على الملحدين والمجدِّفين، مع أنه إذا حاكم وعاقب لن يلومه أحد وداود النبي يقول: «لِكَيْ تَتَبَرَّرَ فِي أَقْوَالِكَ، وَتَزْكُوَ فِي قَضَائِكَ» (مزمور51: 4).
لعل أجمل صفة من صفات الله هي طول أناته، فقد أنجبت هذه الأناة الطويلة ملايين القديسين، والذين لو حُكِم عليهم وهم في حال الخطية، لهلكوا هم وخسرنا نحن أمثلة رائعة تشجّعنا في مسيرتنا، ذلك لأن الله ينظر إلينا باعتبار ما سيكون وليس على أساس ما هو موجود، وهذا هو الفرق بين الناس والله، فالله لا يحكم على شخص ما من خلال مرحلة معينة في حياته، كما أنه لا ييأس من إنسان بطبيعته كما يحدث مع البشر، بل يغفر ويلاطف ويصبر ويغدق الخير والنعم بالأكثر على أولئك المكسورين والرازحين تحت وطأة الخطية، وكثيرون ممن تأثروا بهذا الحب وهذا الغفران تجدّد فيهم الرجاء. ونهضوا للتوبة، بل وجاءت توبتهم قوية جدًا وأعطت أثمارًا تليق بقوتها.
،، البقية غداً ،، بمشيئة الرب