هذه أجمل أيام السنة، وأسبوع الآلآم هو أهمها وأقدسها، يُسمّى أسبوع الآلام، وأسبوع البصخة، والأسبوع الكبير والأسبوع المقدس. وقديمًا كان الناس يغلقون متاجرهم ويوقفون تعاملاتهم التجارية خلال هذا الأسبوع، ويلزمون الكنيسة طوال الأسبوع، يصلّون بخشوع ويتتبّعون رحلة آلام الرب وصلبه ويفرحون بقيامته. حتى العبيد كانوا يُعفون أسبوعين، وحتى المجرمين كان يُسمح لهم بالاشتراك فى البصخة لعلهم يتوبون، كما كان الملوك أنفسهم يتخشعون فيخفّفون أحكامهم في هذا الأسبوع.
ويلتزم الناس الخشوع والتكريس، يؤجّلون أية قراءات عادية (مثل الجرائد والطرائف والعلوم العادية والكوميديا وما شابه). كما يراعون أن يكون الاهتمام بالمظهر أقل .. تقل الأكسسوارات، المكياج، الروائح، ثمن الثياب، بل أن النساء التقيات فى بعض المدن والقرى يتشحون بالسواد، فلا يصبح السواد مجرد وسيلة إيضاح فى الكنيسة بل تمتد الكنيسة إلى البيت فيتحول البيت إلى كنيسة، وكذلك قبلة يهوذا ومع أنها مجرد وسيلة إيضاح في الكنيسة للتذكرة فقد كان الناس قديمًا يلتزمون هذا الطقس حتى خارج الكنيسة، بحيث لا يصبح الأمر وكأنه تمثيلية ولكنه معايشة حية للحدث. كنا نحتفظ بالصلبان السعف وقربانة خميس العهد وحنوط الدفن وورد الصلبوت طوال العام،
وفي هذا الأسبوع تُرفع حالة الطوارئ فى البيوت، مثلما كان يحدث فى البيت اليهودي فى الفصح إذ يتغيّر شكل البيت والبرنامج اليومي للبيت، وكانت الأم تنبه وتنذر وتبشر قبل البصخة بأسابيع بأن اسبوع الآلام اقترب وعلينا أن نستعد للتفرغ للعبادة.
أمّا الطعام فقد كان للأقباط طقس فيه لا يتهاونون فيه، ويظن البعض أنه بسبب الانشغال فى العبادة الكنسية لا نجد الوقت الكافي لطهو أنواع من الطعام وهذا فى الأديرة بالطبع، ولكنه كان يحدث فى البيوت أيضًا، وبالمثل الحلوى والمشهيات والتسالى وغيرها ... بل يمتد ذلك أيضًا إلى الراديو والتلفزيون والتنزهات ولقاء الأصدقاء وجلسات السمر والأحاديث التليفونية وغيرها ...
هذا وتمتلئ الكنائس في أسبوع الآلآم أكثر مما تمتلئ فى وقت آخر من السنة حتى في الأعياد السيدية الكبرى، وتتشح بالوقار لا بالسواد، فإن هذا السواد تعبّر به الكنيسة عن مشاعرها تجاه آلام المسيح. ويتسابق الناس لإحضار الأغصان والورود والسعف، ويتسابقون فى حجز مقاعدهم ومعهم كتبهم، حتى إن أكثر الكتب طباعة ومبيعًا هى كتب قراءات أسبوع الآلام، بأشكال وأحجام وألوان ومقاسات ....
متى يبدأ أسبوع الآلام؟
يبدأ هذا الأسبوع منذ سبت لعازر حيث يتشاور رؤساء اليهود على السيد المسيح، بعد معجزة إقامة لعازر من الموت، فقد مرت معجزات شفاء المرضى وإخراج الشياطين، ببعض التفاسير وقليل من التأثير، ولكن إقامة ميت أنتَنَ فى القبر أحدثت دويًا هائلاً، لاسيما وقد بدأ السياح يتوافدون عشرات ومئات الآلاف من كل بلاد العالم للاحتفال بالفصح، يسمعون بالمعجزة وجاءوا ليروا يسوع، وبالتالى سيبشرون به فى بلادهم الأمر الذي أزعج رؤساء اليهود: «إِنْ تَرَكْنَاهُ هكَذَا يُؤْمِنُ الْجَمِيعُ بِهِ، فَيَأْتِي الرُّومَانِيُّونَ وَيَأْخُذُونَ مَوْضِعَنَا وَأُمَّتَنَا» (يوحنا 11: 48). وعقد اليهود مجمعًا صرّح فيه قيافا بأنه خير أن يموت واحد عن الأمة.
اقتحم المسيح الموت يوم السبت، والسبت هو اليوم الذي يسبق الحياة الجديدة بالقيامة، وكان هو آخر سبت.
الأحد: يدخل المسيح علنًا كملك متضع، وكانوا يتساءلون هل يأتي في العيد؟ وكان المسيح يحضر أعيادهم الكبيرة (مثل المظال والتجديد والفصح)، وحين هتف له الشعب لم يكن ذلك دعاية من التلاميذ، ولكن اليهود ارتعبوا والقيادة أفلتت من أيديهم أمام أناس يُحيّون ملكهم: “أوصنا .. خلصنا ..”، فحاولوا قتل لعازر نفسه لكى يتخلصوا من دليل هام على مسيانيته. وقالوا فى حسرة ومرارة: «انْظُرُوا! إِنَّكُمْ لاَ تَنْفَعُونَ شَيْئًا! هُوَذَا الْعَالَمُ قَدْ ذَهَبَ وَرَاءَهُ!» (يوحنا 12: 19). وتدور قراءات اليوم حول رئيس كهنة الخيرات العتيدة الذى سوف يتألم. ومزمور إنجيل القداس كان: «بوِّقوا فى رأس الشهر»، والبوق هو بداية الاحتفالات.
+ وهتفنا كلنا اليوم: “تعال خلّصنا .. هوشعنا .. مبارك الآتى باسم الرب .. أوصنا يا ابن داود ...”
لماذا لا نقيم القداسات وسط الأسبوع؟:
أغلقنا ستر الهيكل عقب قداس الأحد، وتوقفت ذبيحة الإفخارستيا، الحمل تحت الحفظ أربعة أيام، والمسيح يرتب لتقديم ذبيحة نفسه، والفردوس مغلق أمام آدم وبنيه حتى يُشفوا من سم الخطية ... بل نصلي البصخة خارج الخورس .. حيث خرجنا إليه خارج المحلة لنتألم معه، لأن المسيح تألم خارج المحلة، قال القديس بولس : «فَلْنَخْرُجْ إِذًا إِلَيْهِ خَارِجَ الْمَحَلَّةِ حَامِلِينَ عَارَهُ» (عبرانيين 13:13)، ولأن الذبائح التي كانت تُقدّم عن الخطية كانت تُحرق خارج المحلة. ومثل الأبرص الذي يتطهّر خارج المحلّة ... ومثل المؤمن الذى يتطهّر من خطيته خارج الهيكل أولاً، ليتناول لاحقًا.
بل ليُخيَّل إلى الناظرين عن بُعد أن الشعب كله فى مناحة: الألحان مؤثرة، الكنيسة متشحه بالسواد، خشوع ومهابة يغطيان المكان، لا يوجد شيء ناقص سوى صراخ وعويل (تقوم به بعض الألحان مثل "بيك ثرونوس" .. وعند الدفن لحن "الجلجثة").
المسيح يبكى أورشليم: تأوّه السيد المسيح متحسرًا عليها قائلاً: آه لو كنت تعلمين ما هو لخلاصك، لكن قد أُخفى عن عينيك!! «إِنَّكِ لَوْ عَلِمْتِ أَنْتِ أَيْضًا، حَتَّى فِي يَوْمِكِ هذَا، مَا هُوَ لِسَلاَمِكِ! وَلكِنِ الآنَ قَدْ أُخْفِيَ عَنْ عَيْنَيْكِ» (لوقا 19: 42)، لقد جاء إليهم وهم رفضوه .. يفتخرون بالهيكل وهو يراه سيُهدم .. يبحثون عن ملك أرضي وهو ملك السلام .. اهتموا بأن يتركوه على الصليب ليذبحوا خروف الفصح!! ولم يعلموا أنهم إنما تركوا الحمل الحقيقي الذي كانت ترمز إليه جميع الذبائح. يحفظون النبوات عن ظهر قلب ولا يعرفون أنه هو المسيا .. يناقضونه ويصادرونه وهو رب السبت، يحاكمونه وهو قاضي القضاة ورب الأرباب وإله الآلهة.
اثنين البصخة: أحد الشعانين عيد عظيم رائع ملئ بالبهجة، دخل المسيح أورشليم ليأسس مملكته الجديدة، وقدم نفسه ملكًا وكاهنًا، فنقض الهيكل (هيكل جسده)، وحوّل الكهنوت إلى الكهنوت المسيحي، والذبيحة بذبيحة نفسه، والأمة اليهودية بأولئك الآتين من المشارق والمغارب، غيّر الكهنوت .. والطقوس .. والفكر. هذا حدث يوم الاثنين حيث أشارت التينة إلى الأمة اليهودية (ولما حكم عليها بأنه لن يعود فيها ثمر، يبست وكان ذلك معناه الحاجة إلى شجرة جديدة .. وبتطهير الهيكل .. تنتهى الذبيحة ويتقدس المكان). وفي هذا رد على تخوِّف اليهود من الرومان في حالة تبعية الشعب للمسيح، فحين قالوا عن الرومان: «يَأْخُذُونَ مَوْضِعَنَا وَأُمَّتَنَا» (يوحنا 11: 48)، ويقصدون الهيكل وتحوّل اليهودية إلى ولاية رومانية، طهر المسيح الهيكل واستبدل الأمة بالأمم بل وأعطى آدم أن يكون مدنيًا (أعطاه الجنسية السمائية).
ثلاثاء البصخة: كان للسيد المسيح تعاليم رائعة فى هذا اليوم، أكد خلالها على المُلك الجديد (الجزية لقيصر)، وفى السماء لا يزوّجون ولا يتزوّجون (متى 22)، وبكّت اليهود من خلال مثل الكرّامين الأردياء .. ومثل عرس ابن الملك. كانت تعاليمه في ذلك اليوم بمثابة الحكم النهائي على الرافضين له، ولذلك تردِّد الكنيسة فى هذا اليوم لحن “بيك اثرونوس” (عرشك يا الله) .. أي أننا موافقين عليك ملكا لنا .. تجلس على عرش قلوبنا .. أسِّسْ مملكتك .. وأشبعنا من دسمك.
أربعاء أيوب: وسُمّى هكذا لأن التقليد يفيد بأن أيوب البار اغتسل من أمراضه وشُفي فى ذلك اليوم .. ولكن أيوب شُفى بآلام السيد المسيح «الَّذِي بِجَلْدَتِهِ شُفِيتُمْ» (بطرس الأولى 2: 24). كما أن أيوب من بعض الجهات يشير الى المسيح من جهة الآلام والصبر. وكان السيد المسيح قد ترك الهيكل إلى الأبد: «هُوَذَا بَيْتُكُمْ يُتْرَكُ لَكُمْ خَرَابًا» (متى 23: 38). وهناك حادثتان هامتان فى ذلك اليوم: قارورة الطيب حيث تقدّم البشرية له خضوعها وجهادها وتلقبه عريسًا وملكًا لها، وتستبق يوم التكفين لتكفينه بما يليق قبل السبت المتعجّل، والحادثة الثانية خيانة يهوذا، لتؤكد الكنيسة أن العنصرين موجودان دائمًا .. المحب علنًا والخائن سرًا.. الرافض والقابل، الهالك والمخلَّص .. ولكن السيد المسيح عامل الاثنين برفق شديد. لذلك تنشد الكنيسة في يوم الاربعاء اللحن الرائع آفتشنون “كلامه ألين من الدهن وهو نصال”.
خميس العهد: يوم مزدحم جدًا بالأحداث المتلاحقة، ويوم مشحون بالألحان والطقوس والقراءات: دورة خيانة يهوذا، غسل الأرجل، الإفخارستيا، وعندما نفتح ستر الهيكل نحن نصوّر الذى حدث بأنه خيانة وطرد، ولذلك نحن نمارس دورة تبكيت يهوذا، لكي نصوّر ما فعله.
اللقان: كان الإنسان يحتاج إلى تطهير، وجاءت قراءات اللقان لتتحدث عن ذلك: “أرش عليكم ماء فتطهرون” .. هكذا نتطهّر خارج المحلة .. كما أسس الرب خدمته على الاتضاع، وكما غُلب آدم بالكبرياء يَغلب آدم الجديد بالاتضاع.
الإفخارستيا: أراد الله أن يُشبِع الإنسان فخالف وطُرد، فلما تتطهر استحق أن يعود ليأكل من شجرة الحياة. وقد سُمّي خميس العهد بهذا الاسم لأن المسيح أسس عهدًا جديدًا على دمه الاقدس، ليس كالعهد القديم الذى قطعه مع الآباء حين أخرجهم من أرض مصر. وأما الخروف فاستُبدِل بالحمل الحقيقي الذي يرفع خطية العالم.
يوم الجمعة الكبيرة (الطويلة): يوم واحد ولكنه كأنه دهر، فهو مليء بالأحداث المتلاحقة. بعد الإفخارستيا مضى الرب إلى جبل الزيتون وبدأ يحزن ويكتئب لأن ساعته قد جاءت .. ومن هناك أخذه العسكر ويهوذا. وحُوكم أمام حنّان ثم قيافا .. ثم أمام السنهدريم، وفى الصباح أمام بيلاطس، والذي حاول إنقاذه سبع مرات.
وهذه المحاكمات أثبتت أنه بلا عيب، ولأنه بلا عيب فإنه سيُقدَّم ذبيحة لأنه يُشترط في الحمل وبالأحرى الحمل الحقيقي ألا يكون به عيب. ورغم كل المحاكمات التي أثبتت براءته.. أصعد ذاته وبسط يديه: “أسلم ذاته فداءً عنا”.
ونلاحظ أن الأمم اشتركوا مع اليهود فى موت المسيح والذي جعل الاثنين شركاء فى الذبيحة، هذا الاشتراك الذي ساهم في أن يكون موت المسيح بالصليب وليس بالرجم. وعندما يكون السيد معلقًا على الصليب نرتل له لحن “أومونوجنيس” والذي يُقال أيضًا عند طبخ الميرون، فهو أصعد ذاته رائحة بخور وطِيب أمام الآب، ويُقال أيضًا عند تجليس البطاركة فهو رئيس الكهنة الحقيقي، كما نرتل لحن “بيك اثرونوس”: «عرشك يا الله إلى دهر الدهور». وقد مات المسيح فى وقت ذبيحة الفصح بعد الكلمات السبع له على الصليب، كما ثارت الطبيعة .. ولا نرتاح نحن إلا إذا أنزلناه عن الصليب لندفنه.
سبت الفرح: نزل المسيح إلى أقسام الأرض السُفلى وسبى سبيًا، رغم أنه ميت إلا أنه أمات الموت، فهو الميت الحي والحي الميت. سبت النور يوم له طعم خاص جدًا، الآن تمتلئ فيه الكنائس، وتشيع البهجة والراحة فى النفوس الممزوجة بخشوع، تسهر الكنيسة بجوار عريسها وهو فى قبره تسبحهه وتشكره لأنه حي وهو مخلصنا. ليلة يغلب عليها "الارتياح" أكثر من الفرح والتهليل مقارنة بعيد القيامة.
أرجو لكم أيامًا مقدسة في الرب.