ولكن أين ومتى ولد؟:
لم يمدنا التاريخ بمعلومات كافية عن هذا الأمر، ولكن بلاديوس يشير إلى أنه عاش خمسة وسبعين عامًا، ونعرف أنه استشهد في الغارة الأولى للبربر على شيهيت والتي حدثت سنة 407 م. فيكون مولده بالتالي سنة 332م. تقريبًا.
+++++++++++++++++++++++++++++++++++++++++++++++
كيف عاد إلى الله:
عندما سأل تلاميذ القديس باخوميوس معلمهم عن السبيل إلى إجراء المعجزات، فأجابهم بأن: "صنع المعجزات موهبة قد تسبب الكبرياء لصاحبها ما لم يكن معها اتضاع يحفظها، ولكنى أريكم طريقًا أفضل لصنع المعجزات وهو الآتي: إن علّمت بخيلًا فضيلة العطاء فقد شفيت يدًا مشلولة، وإن حولت غضوبًا إلى الوداعة فقد أخرجت شيطانًا، وإن أرشدت إنسانًا إلى طريق الخلاص فقد فتحت عيني أعمى، وإن أرجعت خاطئًا عن طريق ضلالته فقد أقمت ميتًا"!!
وهكذا كانت توبة موسى الأسود هي عودة إلى الله.. فلا شك أنه كان فيه شيء صالح.. كان هاتف الخير يهتف في داخله بين آن وآخر.. فلم يكن شريرًا بطبعه، ومن المؤكد أنه لم يولد مجرمًا!! وهو يذكّرنا باللص اليمين والذي لم يكن شريرًا بجملته بدليل أنه عاد وتأثر بالرب المصلوب، في حين جدّف اللص الآخر ورفض الإيمان، ويمكننا بالتالي القول بأن البرّ الذي في موسى ظهر عندما أراد، مثل اللص اليمين: كلاهما كان فتيلة مدخنة فنفخ فيها الرب بروحه القدوس فاشتعلت وصار كل من موسى ومن شابهه في طريقة حياته الأولى مُلهمًا لكثيرين ممن استجابوا لصوت الله وأشرق في قلوبهم النور الإلهي.
أما موسى فقد قال البعض أنه رأى رؤية جعلته يفكر في مشاركة النساك حياتهم، وبالتالي راح يسأل عن رهبان شهيت، إذ سمع الكثير عن حياتهم وتقواهم ومعجزاتهم، وفي ذات صباح تطلع إلى الشمس التي كان يعبدها وقال: "إن كنتِ أنتِ الإله فعرّفيني، وإن لم تكوني فيا أيها الإله الذي لا أعرفه عرفني ذاتك.." ويذكرنا ذلك بما فعله الملاحون في السفينة التي استقلها يونان إلى ترشيش حين صرخ كل منهم إلى إلهه... ويرد في المخطوطة التي روت سيرته (2). أن إخوة سألوا شيخًا قائلين: [قيل عن أنبا موسى الأسود أنه بينما كان متقلبًا مع أصحابه قطاع الطرق في أفعالهم القبيحة أدركته فكرة صالحة فذهب إلى البرية، فإذا كان هذا من عمل نعمة الله فلماذا لم يتم قبل ذلك الوقت؟] فقال الشيخ: [إن كل فضيلة هي نعمة من الله كما قال الرب "بدوني لا تقدرون أن تفعلوا شيئًا" (يو 5:15) إلا أن نمو النعمة يكمل باختيار إرادة الإنسان، وهي لا توقظ الإنسان إلا عندما يعلم الله أن فكره قد مال إلى الخير، وذلك حفظًا لحرية إرادته، وحينئذ توقظه النعمة، فإذا اختار الخير يكمل فيه عمل النعمة كما حدث لإبراهيم..]
هنا ونقول أن الإنسان الذي انفصل عن الله بإرادته، مستفيدًا بذلك (أو مستغلًا) حريته التي منحه إياها، يلزمه أن تتحد إرادته بالله من جديد حتى يخلص، أما الله فهو يمد يده طوال النهار إلى الشعب المعاند والمقاوم ويتبقى أن يمد الخاطئ يده إلى الله.. "لأني دعوت فأبيتم ومددت يدي وليس من يبالي" (أمثال 1: 24)، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. وفي سفر إشعياء يقول: "بسطت يدي طول النهار إلى شعب متمرد سائر في طريق غير صالح وراء أفكاره" (اش 65: 2) في هذا قال القديس اغسطينوس: "إن الله الذي خلقك بدون إرادتك لا يريد أن يخلصك بدون إرادتك.."
من قبل حب الاستطلاع وكمن هو متعطش لمعرفة الحق والبحث عن الينبوع الحقيقي للراحة، مضى موسى إلى جماعة الرهبان التي سمع عنها في شيهيت متقلدًا سيفه (ومثل الصحافي الذي يحمل كاميرته والكاتب الذي يحمل قلمه والجندي الحامل سلاحه، مضى موسى كلص حاملًا سلاحه).. وتقابل أول ما تقابل مع القديس إيسيذورس قس الإسقيط، وهو تلميذ للقديس مكاريوس، ويبدو أنه كان مسئولًا عن الرهبان الجدد. على أن أكثر ما يميزه من الفضائل هو طول أناته على الخطاة.. فكان بمثابة الطبيب الروحاني للإسقيط.
وتعجب القديس من منظر موسى المثير للقلق، بل قيل أن الرهبان أنفسهم كانوا يتعاملون مع موسى بحذر في بداية سكناه في الإسقيط، فقد كان -أي موسى- رعب المنطقة كما سبق. سأله القديس مستفسرًا عما يريده من أناس بسطاء يعيشون على الكفاف، ولا يطلبون سوى خلاص نفوسهم، أجاب موسى: "لقد سمعت أنك صالح فأتيت إليك لترشدني كيف أكون صالحًا مثلك"(3) وراح يطلب بإلحاح وخشوع "أريد أن أكون معك، ولو أنني صنعت شرورًا عظيمة".
ويتعجب القديس إيسيذورس كيف اهتدى موسى إلى ذلك المكان.
ولاشك أن شهرة موسى وسمعته كانت قد سبقته إلى البرية منذ زمان.. مما يثير الخوف والاشمئزاز. وعرف القديس إيسيذوروس منه أن أحد الرعاة -وحين سأله عن الحق- أشار عليه بالاتجاه إليه -أي الأنبا إيسيذوروس- ليعرف منه ما يريد، وجاء في سيرته أيضًا أنه سمع عن القديس من أحد المزارعين والذي كان يحصد إلى جواره في الحقل. ومن هنا فقد طلب إلى القديس بإلحاح وصدق أن يعرفه طريق الله، فلما سأله عن ماضيه ومعبوده، أخبره بأنه ماضٍ مفعم بالشرور والجرائم، وأنه إذ تأثر بما سمعه عنه وعن رهبانه تحرك الجنين الروحي في أحشائه، أما عن عبادته فلم يكن يعرف سوى الشمس إلهًا، فهي تنير المسكونة بنورها وبغيابها يحل الظلام، وكذلك القمر والنجوم المليئة بالأسرار!! [وقلت للشمس ذات يوم "أيها الإله الساكن في السماء مهدي الخليقة كلها اهدني إليك الآن وعرفني ما يرضيك". ولما سمعت عنكم جئت لتخبرني وتسأل الله عني لكي لا يغضب منى لأجل شروري وقبائحي ولا يهلكني] قال هذا وصار يبكى بكاءً شديدًا (4).
أما يوحنا كاسيان فقد ذكر في مناظراته أنه لما جدّ الناس في البحث عنه بسبب جرائمه، لجأ إلى أحد المناسك محاولًا الاختباء، ويقول "شينو" أنه تقابل دون شك مع بعض الرهبان الذين حدثوه عن التوبة والدينونة المعدة للخطاة، فابتدأ منذ ذلك الوقت يفكر في التوبة. وربما فكر في مصيره الأبدي، فالتجأ إلى بعض الأديرة ليبدأ رحلة توبة رائعة..