وإذا بموسى يندفع بكل قوته مجاهدًا ضد الشر وحروب الفكر، إذ رجع إلى قلايته منفردًا وممارسًا أنواعًا كثيرة من إماتة الجسد، وقيل عنه أنه مارس النسك في البداية بغيرة شديدة، فكان لا يأكل سوى الخبز المبلول مرة واحدة عند الغروب، بالرغم الجهد الشاق الذي كان يبذله رغبة منه في إخماد ثورة جسده الذي كان يتمرد عليه كثيرًا، إذ كان يشعر باشتعال الشهوات داخله في يقظته أو الأحلام التي تقلقه، وكلما أراد محاربتها طاردته تلك الأشباح الدنسة.
ثم ذهب إلى أبيه الأنبا إيسيذورس يشكو من هذا الصراع العنيف قائلًا: ”ماذا أفعل يا أبي؟ إنّ الأحلام الشريرة تزعجني فُتيقظ فيَّ كل الميول النجسة، ولاسيما بالليل حيث تصوِّر أمامي ماضيي الرجسُ وكل ألوان الخطية“! فأجابه الأب: ”هذا يحدث لك لأنك لا تهرب من تصوراتك، فواظب على السهر مع الصلاة الكثيرة والصوم، وكن متيقِّظًا وتحكَّم في حواسك، وثق أنك ستنتصر على الشيطان وتتغلَّب على جسدك الثائر“. فقويت عزيمة القديس وعمل بهذه المشورة إذ ألزم نفسه ألاّ يرقد طوال الليل ولا حتى يثني ركبتيه.
وكان قد مضى إلى البرية الداخلية واتخذ له مغارة حفرها في الصخر على عمق أربعين ذراعًا بالقرب من الماء، واستمر لست سنوات ُيتعب جسده، لا يتناول إلاّ القليل من الخبز عند الغروب، كما أتعب نفسه كثيرًا في عمل اليد فكان يضفر في اليوم الواحد ثلاثين باعًا، بينما لا يستطيع أحد أن يضفر أكثر من خمسة عشر باعًا في اليوم، هكذا أجهد ذاته حتى يبس جسده وضعف.
واستمر لست سنوات يتعب جسده، كما اتعب نفسه كثيرًا في عمل اليد فكان يضفر في اليوم الواحد ثلاثين باعًا، بينما لا يستطيع أحد أن يضفر أكثر من خمسة عشر باعًا في اليوم، هكذا أجهد ذاته حتى يبس جسده وضعف.
وهكذا مارَس الحياة النسكية بغيرة شديدة، إما لتعطشه الشديد لهذا النبع ولتعويض ما فاته، وإما رغبة منه في شغل وقته وإجهاد جسده حتى لا يتمرد عليه متى كان مستريحًا، وإذا بالحرب تشتد عليه جدًا إلى الحد الذي تصغر نفسه معه، وعندئذ مضى إلى أبيه الروحي يشكو له حاله، وكان القديس إيسيذورس يدرك ما يحدث فقال له: "ينبغي عليك الاعتدال في كل شيء حتى في أعمال الحياة النسكية" وأردف قائلًا:
’كُفّ عن الصراع مع الشياطين لأنه توجد حدود للشجاعة حتى في الجهاد النسكي‘. فقال موسى: ’لن أكفّ قبل أن يكفُّوا عن تخيلاتهم‘. فقال له الشيخ: ’باسم يسوع المسيح قد تلاشت أحلامك، والآن تقدّم إلى التناول بثقة‘. كما قال له: ’بدون قوة الروح القدس التي أعطانا الله إياها في المعمودية لتنفيذ وصاياه، والتي تتجدّد فينا دائمًا بالتناول من الجسد والدم الأقدسين لن نتخلّص من الخطايا ولن نستطيع أن نقهر الشياطين، وبالتالي لن نستطيع أن ننمو في الفضيلة‘. ثم قال له: ’لقد تثقّلتَ بهذه الحروب يا موسى حتى لا تتباهى بأنك غلبتَ أوجاع الشهوات‘“.