ثم عاد موسى إلى قلايته، وظلّ مواظبًا على التناول والعمل بنصائح أبيه الروحي، وبعد شهرين سأله أبوه عن حاله فعلم منه أنه لمدة شهرين لم يقاسِ من الحروب، وحُسِب أهلًا أن يأخذ سلطانًا على الشياطين حتى إنّ الذباب صار أكثر إزعاجًا له منهم“.
سأل إخوة شيخًا: ”لماذا رغم أنّ الآباء يحثوننا دائمًا على الجهاد لأجل الفضائل والصراع ضد الأوجاع والشياطين، فإنّ أنبا إيسيذورس نصح أنبا موسى الأسود قائلًا: ’كُفّ عن الصراع مع الشياطين لأنه توجد حدود للشجاعة حتى في الجهاد النسكي‘“؟ فأجاب الشيخ: ”لأن موسى كان في البداية يجهل أصول الحياة النسكية، ولأن صحته الجسدية كانت قوية فقد جاهد أكثر من اللازم وظنّ أنه كان يمكنه أن يسود ببطولته على الشياطين بأعماله الكثيرة وحدها وأنه يستطيع أن يبدِّدهم. لذلك لما رأى الشياطين فيه هذا الشعور ظلّت تهاجمه بقسوةٍ أكثر بحروبٍ متتاليةٍ في السرِّ والعلن“.
”ولكن أنبا إيسيذورس أراد أن يرشده إلى الصواب وأن يجعله يكتسب الاتضاع، فقال له: ’بدون قوة الروح القدس..‘ (القول المذكور أعلاه)، فتعلَّم موسى وصارت أفكاره متضعة، وتناول من الأسرار المقدسة، وهُزِمت الشياطين وقلّلت من حروبها ضده، ومنذ ذلك الوقت وجد راحةً وامتلأ معرفةً وسلامًا“.
”إنّ رهبانًا كثيرين قد تصوَّروا أن أوجاعهم تُشفى ونفوسهم تتعافى بواسطة أتعابهم وجهاداتهم وحدها، لذلك هجرتهم النعمة وسقطوا من الحق، لأنه كما أن المريض بالجسد لا يمكنه أن يُشفى بدون طبيب وعقاقير ويكون أكثر تحفُّظًا في أكله أو صومه أثناء فترة العلاج، هكذا أيضًا المريض بأوجاع الخطية فهو بدون المسيح طبيب النفوس وبدون المشاركة في جسده ودمه والقوة الكامنة في وصاياه والاتضاع مثله، لا يمكنه أن يُشفى من أوجاعه ولا ينال شفاءً كاملًا، وعلى ذلك فكل مَنْ يحارب الأوجاع والشياطين بوصايا الرب يُشفى من مرض الأوجاع ويكتسب صحةً لنفسه ويُنقَذ من خبث الشياطين“.
وفي حديث له فيما بعد يقول في رسالة أرسلها إلى أنبا "نومين":
أنى أفضل خلاصك بخوف الله قبل كل شيء طالبا أن يجعلك كاملا بمرضاته حتى لا يكون تعبك باطلا بل يكون مقبولا من الله فتفرح .. لأننا نجد أن إذا ربحت تجارته كثر سروره وكذلك الذي تعلم صناعته إذا ما أتقنها كما ينبغي ازداد فرحه متناسيا التعب الذي أصابه، وذلك لأنه قد أتقن الصنعة التي رغب فيها ومن تزوج امرأة وكانت عفيفة صائنة لنفسها فمن شأنه أن يفرح قلبه. ومن نال شرف الجندية فمن شأنه أن يستهين بالموت في حربه ضد أعداء ملكه وذلك في سبيل مرضاة سيده. وكل واحد من أولئك الناس يفرح إذ ما أدرك الهدف الذي تعب من أجله فإذا كان الأمر هكذا من شئون هذا العالم فكم وكم يكون فرح النفس التي قد بدت في خدمة الله عندما تم خدمتها حسب مرضاة الله؟.
الحق أقول لك إن سرورها يكون عظيم لأنه في ساعة خروجها من الدنيا تلقاها أعمالها وتفرح لها الملائكة إذا أبصروها وقد أقبلت سالمة من سلاطين الظلمة لأن النفس إذا خرجت من جسدها رافقتها الملائكة وحينئذ يلتقي بها أصحاب الظلمة كلهم ويمنعونها عن المسير ملتمسين شيئا لهم فيها. والملائكة وقتئذ ليس من شأنها أن يحاربوا عنها، لكن أعمالها التي عملتها هي التي تحفظها فتستر عنها منهم. فإذا تمت غلبتها بأعمالها تفرح الملائكة حينئذ ويسبحوا الله معها حتى تلاقى الرب بسرور، وفي تلك الساعة تنسى جميع ما انتابها من أتعاب. فسبيلنا أيها الحبيب أن نبذل قصارى جهدنا ونحرص بكل قوتنا في هذا الزمن القصير على أن نصلح أعمالنا وننقيها من كل الشرور عسانا نخلص بنعمة الله من أيدي الشياطين المتحفزين للقائنا إذ إنهم يترصدون لنا ويفتشون أعمالنا أن كان لهم فينا شيء من أعمالهم لأنهم أشرار وليس فيهم رحمة، فطوبى لكل نفس لا يكون لهم فيها مكان فإنها تفرح فرحًا عظيمًا.
--------------------------------------------------------------------
+ وقال أيضا: إن كانت الأتعاب لا تقود إلى الصلاة فعمل المصلى باطلًا.
+ وسأله أخ: ما هي المقارنة بين الجهاد والصلاة؟
قال له الشيخ: من يصلى طالبًا العتق من الخطية لا يجوز أن يكون مهملًا، لأن من أخضع مشيئته يقبله الرب.