واحتاج موسى إلى تشجيع كثير وإلى إرشاد روحي مكثف لاسيما في البداية، وبهذا الخصوص فإن المرشد الروحي يكون مثل الطبيب الذي يعرف كيف يشخّص المرض ومن ثم كيف يصف الدواء، ولكن الأمر يحتاج إلى صدق وصراحة وطاعة من المريض ذاته، لذلك يشدد آباء الرهبنة على ضرورة التدقيق في اختيار المرشد الروحي لئلا يقع الشخص في يد مريض بدل طبيب. ويقولون أنه في الإرشاد ليس شرطًا أن يكون المرشد من طال عمره وشاب شعره، بل لمن وهبه الله نعمة مثل هذه التي تحلى بها القديس إيسيذورس..
والعجيب أن الأب إيسيذورس قس الإسقيط يأتي في الترتيب في ليتورجيات الكنيسة بعد القديس موسى، بل إننا نحتفل به في الدير وسط احتفالاتنا بتلميذه القديس موسى، إذ لا يُعرف حتى الآن تاريخ نياحته أو تكريس بيعة له، ولا شك أن ذلك مدعاة لفخر القديس أن يختفي لكي يُكرم ابنه وتلميذه، وأن يكون شاغله الأول هو خلاص نفسه، هكذا تبنّى الكثير من الآباء تلاميذهم وأيقظوا الروح القدس داخلهم واكتشفوا مواهبهم، وتبنوها حتى تفوقوا عليهم هم، مثل الأنبا بيجول وتلميذه القديس شنوده رئيس المتوحدين، والأنبا اسحق رئيس دير الأنبا صموئيل وتلاميذه (القديس ميصائيل السائح والأنبا غاليون السائح وغيرهم).
كما لجأ القديس موسى إلى طريقة يُعبّر بها عن محبته للآخرين وبذله لأجلهم ومن جهة أخرى إتعاب جسده، وعوض استخدامه في أذية الآخرين يستثمره في التخفيف عنهم، كان الحصول على الماء أمرًا شاقًا بالنسبة للآباء، إذ يتوجب عليهم السير لمسافات بعيدة تتراوح ما بين ثلاثة إلى ثمانية كيلومترات، وانتهز هو هذه الفرصة ليمر سرًا على قلالي الشيوخ يأخذ جرارهم ليملأها لهم متحملًا في ذلك جهدًا كبيرًا، آملًا أن ذلك أيضًا قد يجعل جسده يتضع فيكف عن التمرد عليه. ولكن الشيطان "عدو الخير" لم يطق هذا الفعل، ففي إحدى المرات ضرب موسى ضربًا موجعًا، ويقال أنه ضربه بعصا غليظة على ظهره، ولم يعرف ما حدث إذ سقط مغشيًا عليه وظل هكذا إلى اليوم التالي حين عثر عليه بعض الإخوة الذين جاءوا ليستقوا ماءً فوجدوه على تلك الحالة السيئة.. وعلم القديس إيسيذورس الذي أمر بحمله إلى الكنيسة حيث استمر يعالجه لمدة تقرب من العام -مما يشبه الانزلاق الغضروفي- قبل أن يستعيد عافيته. وربما اتخذ له منذ ذلك الحين القلاية القريبة من الكنيسة، بعد أن قضى في منطقة "بترا" ست سنوات.
وكما كان عمل المحبة هذا سرًا، فإنه أخفى فضائله، ولما شعر بالكرامة تسعى إليه هرب هو منها كما قال الطوباوي مار اسحق السرياني: [من يسعى إلى الكرامة تهرب منه، ومن هرب منها بمعرفة سعت إليه وأرشدت الناس عنه].
لقد سمع حاكم المنطقة بسيرة موسى الذي كان فيما قبل لصًا وعلم موسى أن الرجل قادم في حاشيته لزيارته، فاختبأ بين أعواد الغاب بعيدًا عن الدير فلما مرَّ الحاكم من قدامه سأله أين يجد موسى الأسود، فسأله وماذا يريد منه فهو رجل عجوز غير مستقيم!! وتحيّر الحاكم من هذا الكلام ولكنه واصل مسيره حتى وصل إلى الدير حيث كان الآباء في انتظاره، وروى لهم ما حدث فاستاءوا وتعجبوا كيف يجرؤ إنسان على وصف الأب العظيم بهذه المذمة، ولما راح يصفه لهم بأنه ضئيل الجسم يرتدي ملابس طويلة وبالية ووجهه أسمر ولحيته بيضاء ونصف رأسه خال من الشعر!! وعندئذ استوعب الآباء الأمر، فقد تقابل الحاكم مع القديس الذي لم يكتفِ بالهروب من المجد الباطل بل ووصف نفسه بهذه المذمة، وهكذا رجع الحاكم متأثرًا جدًا أكثر مما لو وعظه القديس(2).
(2) الأوصاف الواردة هنا للقديس هي التقليد المتوارث الذي ألهم الرسامين لتقديم شكل القديس في أيقوناتهم، مثله مثل بورتريهات العديد من الشهداء والقديسين.